في زمن كانت فيه التكنولوجيا لا تزال تتلمّس خطواتها الأولى، كانت مصر تقف على أعتاب ثورة في عالم الاتصالات. وفي 25 مايو عام 1927، شهدت البلاد حدثًا تاريخيًا ومهيبًا، تمثل في افتتاح الملك فؤاد الأول لـ”سنترال رمسيس” بدار التليفونات بشارع الملكة نازلي – رمسيس حاليًا – ليُعلن بذلك دخول البلاد عصر الاتصالات الحديثة.
لم يكن هذا الحدث مجرد افتتاح تقني، بل لحظة محورية في بناء البنية التحتية للدولة الحديثة، وخطوة جريئة نحو تمكين المرأة المصرية من الانضمام إلى مؤسسات الدولة. فبين الأناقة الملكية، والتخطيط الإداري، والتقدّم التقني، بدأت صفحة جديدة في سجل مصر الحديث.
** 25 مايو 1927.. يوم دخلت مصر عصراً جديداً
في تمام الساعة العاشرة صباحًا من يوم 25 مايو 1927، توقّفت عقارب الزمن في القاهرة لحظة وصول الموكب الملكي إلى شارع الملكة نازلي، حيث أقيم الحفل الرسمي لافتتاح السنترال الجديد. استقبل الوزراء وكبار رجال الدولة الملك فؤاد الأول بحفاوة بالغة، فهذه اللحظة لم تكن مجرد تدشين لبناء، بل إعلان لدخول مصر عصر الاتصالات المنظمة والمعاصرة.
** كلمة وزير المواصلات: التليفون كضرورة حياتية
ألقى أحمد باشا خشبة وزير المواصلات آنذاك، كلمة مؤثرة تناول فيها أهمية الهاتف في حياة الناس اليومية، مشيرًا إلى أن التليفون لم يعد رفاهية بل ضرورة تواكب تطورات الحياة الحضرية والاقتصادية.
وأكد أن السنترال الجديد صُمم بسعة 10,000 خط، وهي سعة ضخمة حينها، تواكب احتياجات العاصمة وتدعم مشاريع التوسّع العمراني والتجاري.
** أول مكالمة ملكية… من سماعة صنعت في استوكهولم
في مشهد رمزي مهم، رفع الملك فؤاد الأول سماعة هاتف مصنوعة خصيصًا من الفضة في مدينة استوكهولم السويدية على يد شركة “إريكسون”، ليُجري أول مكالمة هاتفية رسمية من السنترال الجديد.
هذه اللحظة حملت دلالات رمزية قوية: التواصل، التقدم، والانفتاح على العالم، وقد خلدتها الصحف والصور الفوتوغرافية كحدث وطني عظيم.
** موكب الدراجات النارية يعلن بدء الخدمة
ما أن انتهى الملك من مكالمته الأولى، حتى انطلقت الدراجات النارية عبر شوارع القاهرة تدق الأجراس، إيذانًا ببدء الخدمة رسميًا. وقد عمّت الفرحة مختلف الدوائر الحكومية والشارع المصري، حيث اعتُبر هذا اليوم بداية عصر جديد من السرعة في تبادل المعلومات وربط أنحاء العاصمة ببعضها البعض.
** بدايات الاتصالات في مصر
قبل هذا الافتتاح، كانت خدمة الهاتف قد بدأت في مصر عام 1881 بين القاهرة والإسكندرية، بالتعاون مع شركة إديسون الأمريكية. واستُخدم أول سنترال يدوي حتى عام 1926، حيث كان الموظفون يقومون بتوصيل الخطوط يدويًا بين المتصلين، ما جعل الخدمة محدودة وبطيئة.
** تمكين المرأة… من السنترال إلى مؤسسات الدولة
في عام 1930، تحقق حلم جديد للمرأة المصرية، حيث سُمِح بتعيين السيدات المصريات لأول مرة في وزارة المواصلات للعمل كمأمورات تليفون في السنترالات.
هذه الخطوة لم تكن مجرد إضافة وظيفية، بل كانت تأكيدًا على قدرة المرأة المصرية على اقتحام مجالات جديدة والمشاركة في إدارة الخدمات الحيوية للدولة.
** التطور التنظيمي للمواصلات السلكية
بحلول عام 1953، وتحديدًا في 21 مايو، تم فصل إدارة التليفونات والتلغرافات عن مصلحة السكك الحديدية، وهو قرار تنظيمي مهم فتح الطريق أمام تطوير هذا القطاع بشكل مستقل.
وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، صدر قرار بإنشاء “المؤسسة العامة للمواصلات السلكية”، وهو الكيان الذي شكل أساس البنية المؤسسية للاتصالات الحديثة في مصر.
** سنترال رمسيس اليوم… ذاكرة حية للتاريخ
لا يزال سنترال رمسيس قائمًا حتى اليوم، يحمل بين جدرانه عبق الماضي، وشهادة على بداية مرحلة هامة في نهضة مصر التقنية. ورغم التحديثات والأنظمة الرقمية المتقدمة اليوم، يبقى هذا المبنى رمزًا لبداية الاتصال المؤسسي المنظم في مصر، ولبنة أولى في صرح طالما تطلع المصريون إلى بنائه.
** من التلغراف إلى الإنترنت… والرحلة مستمرة
من أول مكالمة ملكية عام 1927 إلى شبكات الجيل الخامس والإنترنت عالي السرعة، قطعت مصر شوطًا كبيرًا في مجال الاتصالات. لكن اللحظة التي وقف فيها الملك فؤاد الأول داخل دار التليفونات ممسكًا بسماعة “إريكسون” المصنوعة من الفضة، تظل لحظة فارقة غيّرت شكل التواصل بين المصريين، ومهّدت الطريق أمام طفرات تقنية عظيمة.
كما أن تمكين المرأة في هذا المجال منذ قرن تقريبًا يعكس رؤية مبكرة لدور المرأة في بناء الدولة الحديثة.
وفي ظل التقدّم المتسارع، تبقى العودة إلى هذه اللحظات التاريخية ضرورية لفهم جذور ما نعيشه اليوم من تطور، وتقدير من مهدوا الطريق من الأبطال الحقيقيين… وعلى رأسهم الملك فؤاد الأول، الذي رفع السماعة، ولم يعلم أن صوته سيبقى صداه حاضرًا في ذاكرة مصر الحديثة.