بين الأرصفة المزدحمة في ميناء هونج كونج، حيث تُفرغ الحاويات وتُشحَن البضائع، تدور واحدة من أكثر المعارك الاقتصادية احتدامًا في العصر الحديث وراء هذا المشهد الروتيني، تتمثل في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
فمنذ أن فرض الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب رسومًا جمركية ضخمة على البضائع الصينية، تغيرت قواعد اللعبة، حيث لم تعد العلاقة بين بكين وواشنطن محكومة فقط بالأسواق، بل صارت ساحة مواجهة مفتوحة تتوسع يومًا بعد يوم.
لتتجدد التساؤلات حول مستقبل العلاقات الاقتصادية بين القوتين الأكبر في العالم… فهل ما يحدث هو مجرد حرب رسوم جمركية؟ أم أنه صراع أوسع على النفوذ الاقتصادي العالمي؟.. وهل تملك الصين حقًا القدرة على مواجهة الضغوط الأمريكية؟ أم أنها وقعت في فخ مدروس؟
وتستعرض «بوابة أخبار اليوم» في هذا التقرير أبرز ملامح الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين، وتفاصيل تأثيراتها المتصاعدة على التجارة العالمية.
حرب بلا هوادة بين واشنطن وبكين
دخلت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة من التصعيد، مع قرارات جمركية متبادلة أشبه بجولات ملاكمة ثقيلة.
فقد اختارت الصين الردّ بشكل مباشر وقوي على ما تعتبره ضغوطًا اقتصادية غير عادلة من واشنطن، حيث بدأت المواجهة برفع دونالد ترامب الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الصينية بنسبة 34% في 2 أبريل، لترد بكين بالمثل، بحسب مجلة «ذي إيكونوميست» الأمريكية.
ومع رفع الرسوم لاحقًا إلى 84%، لم تتأخر الصين في اتخاذ رد فعل موازٍ، ثم جاءت المفاجأة، فبعد ساعات من دخول هذه الرسوم الجمركية الأمريكية حيز التنفيذ، قرر ترامب تنفيذ زيادة ثالثة، لتصل الرسوم إلى 104%، ثم إلى 125% بحلول مساء اليوم نفسه.
وقد شملت هذه النسبة غرامة إضافية بنسبة 20%، مرتبطة بدور الصين في إنتاج مادة “الفنتانيل” المثيرة للجدل.
تنازلات تكتيكية في اتجاهات أخرى
رغم تشدد الموقف تجاه الصين، لجأت الإدارة الأمريكية إلى تخفيف التوتر مؤقتًا مع دول أخرى.
فبينما خضعت الصين لرسوم مرتفعة على الفور، تم تأجيل تطبيق رسوم جمركية مشابهة على دول أخرى – بناءً على حجم فائضها التجاري مع أمريكا – لمدة 90 يومًا، وفي هذه الفترة، تسعى واشنطن إلى عقد صفقات تجارية “مصممة خصيصًا” وفق شروطها.
فيما أسعد هذا الانفراج المحدود الأسواق الأمريكية، لا سيما سوق السندات، الذي كان مصدر قلق كبير للمستثمرين، ومع ظهور مؤشرات التهدئة، ارتفعت الأسهم بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة، حيث أنهى مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” تداولاته بارتفاع نسبته 10%، ليقلص الخسائر التي سجلها منذ بداية أبريل.
رسوم تاريخية تعيد مشهد ثلاثينيات القرن الماضي
ورغم بعض التنازلات، لا تزال الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة حتى الآن تُعد من الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة.
إذ بلغ متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية على جميع الشركاء التجاريين أكثر من 25%، وفقًا لقيمة الواردات الأمريكية من العام الماضي.
لكن اللافت أن الرسوم المفروضة على الصين وحدها فاقت الإعفاءات الممنوحة لدول مثل الهند، واليابان، وكوريا الجنوبية وتايوان مجتمعة.
وبذلك، تجاوزت معدلات الرسوم الحالية تلك التي سجلتها البلاد في أعقاب قانون “سموت-هاولي” الشهير لعام 1930، والذي وُصف حينها بأنه نهاية دراماتيكية لفصل صاخب في تاريخ الحماية التجارية العالمية.
أما اليوم، فإن الفصل الجديد الذي يعيشه العالم ــ وفقًا لمجلة «ذي إيكونوميست» الأمريكية، يبدو أكثر إثارة وأشد تعقيدًا، دون مؤشرات على قرب نهايته.
مُهلة المفاوضات
لكن التسعون يومًا الممنوحة للتفاوض بين الولايات المتحدة وشركائها ليست كافية لحل عقد الملفات التجارية، ومع بدء المحادثات الجدية، قد تلقى بعض الدول صعوبة في تلبية الشروط الأمريكية، ويبدو أن ترامب لا يزال يُخطط لفرض رسوم جديدة على سلع حيوية مثل النحاس، والأخشاب، والأدوية، وأشباه الموصلات.
كما أن الشحنات الصغيرة القادمة من الصين، والتي تقل قيمتها عن 800 دولار – والتي كانت معفاة سابقًا – ستخضع لرسوم مشددة ومتطلبات توثيق إضافية، ما يعني تضييقًا جديدًا على حركة التجارة العابرة.
كيف ردت الصين؟
لم تقف الصين مكتوفة الأيدي، فقد وضعت عددًا من الشركات الأمريكية – بينها شركة PVH المالكة لعلامة “Calvin Klein” – على قائمة الكيانات غير الموثوقة.
وقد تمهّد هذه الخطوة الطريق أمام فرض قيود مباشرة على أعمال تلك الشركات داخل الصين.
كما أوقفت بعض شركات الطائرات المسيّرة الصينية تعاملاتها مع موردين أمريكيين، وقلّصت صادراتها من المعادن النادرة التي تُستخدم في الصناعات الحساسة.
وفي 8 أبريل، انتشرت عبر الإنترنت قائمة بردود صينية إضافية محتملة، طرحها محللون مقربون من دوائر اتخاذ القرار.
من بين هذه الإجراءات، إمكانية تعليق التعاون في ملف الفنتانيل، أو فرض حظر على استيراد الدواجن والمنتجات الزراعية الأمريكية مثل الذرة الرفيعة وفول الصويا – وهي صادرات رئيسية تأتي من ولايات أمريكية تميل للحزب الجمهوري.
تصعيد محتمل في قطاع الخدمات
لمّحت وزارة التجارة الصينية إلى أن واشنطن تسجل فائضًا في تجارة الخدمات مع بكين – وإن كان صغيرًا مقارنة بعجزها في تجارة السلع – ما يعني أن الصين قد ترد عبر فرض رسوم على هذا القطاع أيضًا.
وبحسابات مماثلة لتلك التي استخدمتها واشنطن، يمكن أن تصل هذه الرسوم الجمركية إلى 28% على الخدمات الأمريكية.
كما قد تبدأ بكين في مراجعة ملفات الملكية الفكرية للشركات الأمريكية الكبرى العاملة في الصين، بزعم أنها تُحقق أرباحًا احتكارية مبالغًا فيها.
وهو أمر قد يفتح جبهة جديدة في صراع متعدد الأوجه لا يبدو أنه سيتوقف قريبًا.
تهور ترامب «يُقوّض» فرص الحوار مع بكين
تحركات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب تجعل من الصعب على الصين الانخراط في مفاوضات مثمرة.
فبينما يسعى ترامب إلى محاصرة بكين عبر إقامة علاقات مع باقي الأطراف أولًا، ترى الصين أن الحديث المباشر مع واشنطن محفوف بالمخاطر، في حين أن المكاسب المتوقعة منه محدودة للغاية.
من وجهة نظر بكين، تُصر أمريكا على “فك الارتباط” واحتواء الصعود الصيني، دون الاكتراث بالعجز التجاري أو تأثير ذلك على التجارة العالمية.
ورغم أن العلاقات التجارية تمر بفترة ركود “دورية”، فإن المنحنى العام يشير إلى تدهور مستمر، يجعل أي فوائد صينية من المحادثات عرضة للتآكل.
والخطر الحقيقي بالنسبة لبكين هو الفشل، فالإخفاق في الحوار مع واشنطن قد يترك قادة الصين عرضة للإذلال، في حين أن الصين مستعدة لحرب تجارية، لكنها لا تقبل بالمشاركة في “سيرك” البيت الأبيض.
من سينكسر أولًا؟.. «الاقتصاد أم السياسة؟»
مع احتدام المواجهة، يطرح سؤال حتمي نفسه، وهو: من سيُجبر على التراجع أولًا؟
بحسب المجلة الأمريكية ذاتها، ترامب ورث اقتصادًا قويًا وسوقًا نشطة، لكن أداءه اللاحق هزّ هذا الإرث.
فرغم صدور بيانات توظيف إيجابية ومتانة مالية للأسر الأمريكية، إلا أن التحذيرات من الركود تصاعدت.
وأشار بنك “جي بي مورجان” إلى احتمال انزلاق الاقتصاد الأمريكي إلى ركود بنسبة 60%، مع تأثير عالمي متوقع بنسبة 40%، قبل أن يتم تأجيل بعض الرسوم الجمركية.
ورغم تراجع هذه الاحتمالات قليلًا، إلا أن الرسوم المفروضة تظل عبئًا يُرهق المستهلك الأمريكي، عبر رفع الأسعار وتقليص القوة الشرائية، وربما تعطيل جهود خفض أسعار الفائدة من قِبل الاحتياطي الفيدرالي.
وتشير تقديرات “جولدمان ساكس” إلى أن الصين تُعتبر المصدر الرئيسي لأكثر من ثلث واردات أمريكا، وتلبي 70% أو أكثر من الطلب الأمريكي الخارجي، وأي تصعيد في الحرب التجارية قد يُضاعف أسعار هذه السلع.
حتى قبل صعود التضخم، أدت السياسات التجارية الغامضة إلى تصاعد القلق وتراجع الاستثمار والإنفاق.
فقد تجاوز “مؤشر عدم اليقين التجاري” الذي وضعه خبراء الاحتياطي الفيدرالي، مستوياته القياسية السابقة التي رافقت أولى معارك ترامب التجارية.
فيما يبرر مؤيدو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب هذه الخطوات بأنها انعكاس لاهتمامه القديم بالرسوم الجمركية، لكن الواقع يُظهر أن ترامب لا يُحركه المنطق التجاري وحده، بل أيضًا حبّه للغموض والتقلبات.
اقتصاد الصين في مهب الريح
رغم الانتقادات الأمريكية، إلا أن الصين تواجه بدورها مشاكل داخلية فالاقتصاد يعاني من خطر الانكماش لا التضخم؛ فقد سجلت أسعار المستهلك انخفاضًا بنسبة 0.1% في فبراير مقارنة بالعام الماضي.
كمان أن صانعو القرار في بكين يتسمون بالتشدد والبطء في التغيير، حيث لم يبدأوا في التحول نحو تعزيز الاستهلاك إلا في سبتمبر الماضي، في محاولة لاحتواء آثار ركود العقارات والحرب التجارية المقبلة.
رسوم عقابية وأضرار جسيمة
وصلت نيران الحرب التجارية بسرعة أكبر مما توقعت الصين، ووفقًا لتقديرات جولدمان ساكس، فإن رفع الرسوم الجمركية الأمريكية بنسبة 50% كان سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 1.5%، أما الزيادة بنسبة 125%، فكانت ستُفاقم الخسارة إلى 2.2%.
كما أن الضرر الأعمق دائمًا يكون في الضربات الأولى، إذ إن التجارة لا يمكن تدميرها مرتين.
لكن لم تكن الضربة الأقسى فقط على الاقتصاد، بل على الثقة، فقد تراجعت سوق الأسهم الصينية في 7 أبريل/نيسان، عقب الرد الرسمي على ترامب، واضطرت السلطات الصينية لتفعيل “الفريق الوطني” الذي يضم البنوك وصناديق الاستثمار الحكومية، بهدف استقرار السوق.
كما تعهدت القيادة الصينية بمزيد من التحفيز عبر خفض الفائدة ومتطلبات الاحتياطي وطرح المزيد من السندات الحكومية.
لكن لتغطية الأضرار، تحتاج الصين إلى إصدار كميات هائلة من السندات، حيث يُقدّر بنك “باركليز” أن الاقتصاد الصيني بحاجة إلى تحفيز إضافي يصل إلى 7.5 تريليون يوان (أكثر من تريليون دولار أو 5% من الناتج المحلي)، فوق التحفيز الحالي البالغ 2.4 تريليون.
ومع ذلك، فإن هذا قد يحقق نموًا لا يتجاوز 4%، أما لتحقيق هدف الحكومة البالغ 5% تقريبًا، فيجب أن يرتفع حجم التحفيز إلى 12 تريليون يوان – أي 9% من الناتج المحلي.
ولمواجهة التعريفات العقابية، يعمد المصدرون الصينيون إلى تصدير قطع الغيار والمكونات إلى دول الجوار مثل فيتنام وتايلاند، حيث تُدمج لاحقًا في منتجات نهائية تُصدر إلى أمريكا.
وهذه الحيلة قد تنجح، خاصةً أن التعريفات على الصين تتجاوز 100%، بينما لا تتجاوز 10% على بعض شركائها الآسيويين.
لكن هذه الاستراتيجية ليست خفية عن البيت الأبيض.. فقد اتهم بيتر نافارو، مستشار ترامب، فيتنام بأنها تحولت إلى “مستعمرة تصنيع صينية”، حيث يُعاد تصدير المنتجات مع ملصق “صنع في فيتنام” للتحايل على الرسوم الجمركيةالأمريكية.
ومثل هذا التعاون قد يُهدد فيتنام، إن لم تُبعد نفسها عن بكين.
لكن حتى الدول التي قد تنجح في عقد “صفقة خاصة” مع ترامب، لا تملك ضمانات طويلة الأمد.
فالتاريخ القريب يُثبت ذلك، فحتى اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) التي وقعها ترامب، واجهت صعوبات كبيرة.
وإذا لم تتراجع الفوائض التجارية كما هو متوقع، قد تعود الحرب التجارية مجددًا.
ففي السابق، منحت قواعد التجارة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية طمأنينة للمصدرين عند التعامل مع السوق الأمريكية، أما اليوم… فقد تبددت تلك الثقة إلى الأبد.