لم تمرّ سوى أسابيع قليلة من ولاية ترامب الثانية حتى تحولت الولايات المتحدة إلى ساحة تجارب اقتصادية فوضوية، يتحكّم بها رئيس يتعامل مع الاقتصاد العالمي وكأنه لعبة شطرنج يُزيح فيها القطع بلا حساب، ثم يتفاجأ حين تتهاوى الرقعة من تحت قدميه.
ففي 90 يومًا فقط، انتقلت أمريكا من استقرار اقتصادي هشّ إلى حالة من الذعر المالي منذ تنصيب ترامب 20 يناير، بعدما فجّر الرئيس الأمريكي، موجة من الرسوم الجمركية العشوائية التي لم يسلم منها حتى جزء معزول من أستراليا لا يقطنه سوى البطاريق، وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية.
فيما تبخرت تريليونات الدولارات من قيمة الأسهم، وبدأت مؤشرات الركود العالمي تلوح في الأفق، في مشهد يُشبه إلى حد كبير لحظة اصطدام رجلٍ (ترامب) اعتاد صناعة الوهم بصلابة الواقع.
ترامب، الذي بنى جزءًا كبيرًا من مسيرته السياسية والإعلامية على التنمر، والخداع، والمبالغة، وجد نفسه أمام جدار الحقيقة، حيث لم تنفع تهديداته، ولا منشوراته النارية، ولا شعاراته الشعبوية، فالاقتصاد لا يعرف سوى لغة الأرقام، ولا يتأثر إلا بالحسابات الدقيقة لا بالشعارات الثائرة.
لكن هذه الأزمة ليست مفاجئة، بل نتيجة متوقعة لنسخة أكثر تهورًا وانتقامية من ترامب، كما وصفه مقربون من إدارته:
“بلغ ذروة اللامبالاة.. لا يهتم بالأخبار السيئة، سيفعل ما يريد مهما كانت العواقب”.
ولأن السياسات العشوائية لا تبقى بلا ثمن، فإن ما بدأ كـ”حرب رسوم جمركية” سرعان ما تحوّل إلى حرب مالية مفتوحة تهدد استقرار الولايات المتحدة وشبكة الاقتصاد العالمي المتشابكة.
فضيحة ترحيل خاطئ
أقرت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بارتكاب خطأ فادح، بعدما رحّلت رجلًا من ولاية ماريلاند يُدعى كيلمار أبريغو جارسيا إلى سجن سيئ السمعة في السلفادور، رغم تمتعه بوضع قانوني محمي داخل الولايات المتحدة.
في المقابل، حاول ستيفن ميلر، مستشار البيت الأبيض، الادعاء بأن ترحيله قانوني، لكن وقائع القضية وأحكام القضاء أظهرت زيف مزاعمه.
حيث انتقدت القاضية الفيدرالية باولا شينيس، التي ترأست القضية، إدارة ترامب بشدة، وأكدت أنها كانت تدرس اتخاذ إجراءات ازدراء ضد إدارة الرئيس الأمريكي، بسبب عدم تنفيذ أوامر الإفراج عن أبريجو جارسيا، وكانت المحكمة العليا قد أيدت قرار شينيس بإلزام الإدارة بتسهيل عودته من الحجز في السلفادور، لكن القاضية علّقت غاضبة:”حتى الآن، لم يتم فعل أي شيء.. لا شيء”.
ووفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، كشف محامون بالولايات المتحدة، أن عددا من المهاجرين الفنزويليين تم ترحيلهم ظلماً إلى السلفادور بعد اتهامهم زورًا بالانتماء لعصابات مسلحة، فقط بسبب وشومٍ أو ملابس عصرية.
ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تقريرًا حول حالة مهاجر وُشِم بتاج، فاعتبره المسؤولون علامة انتماء لعصابة، لكن محاميه أوضح أن التاج مجرد تحية لفريقه المفضل ريال مدريد.
وفي حالة أخرى، وضع شاب وشمًا مشابهًا إحياءً لذكرى جدته المتوفاة.
قاضي يتوعد إدارة ترامب
في موقف قانوني آخر، أعلن القاضي الفيدرالي جيمس إي. بواسبيرج عن وجود سبب محتمل لاتهام إدارة ترامب بالازدراء الجنائي، بسبب مخالفتها أمرًا قضائيًا يمنع ترحيل الفنزويليين إلى السلفادور.
وحذر القاضي من أنه سيبدأ إجراءات ازدراء المحكمة، ما لم توفّر الإدارة وسيلة للمهاجرين لممارسة حقهم في الاعتراض والطعن القانوني، حتى وإن ظلوا في السلفادور مؤقتًا، حيث كتب بواسبيرج مؤكدًا:
“الدستور لا يتسامح مع العصيان المتعمد للأوامر القضائية، خصوصًا من مسؤولي السلطة التنفيذية الذين أقسموا على احترامها، السماح بذلك يُعد سخريةً صريحة من الدستور”.
مخاطر متصاعدة
هذا النوع من الإهمال المؤذي بات سمة ملازمة لإدارة ترامب ـــ بحسب لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكيةـــ إذ أن حالات مشابهة قد تكون كثيرة ولم يُكشف عنها بعد.
ومع تبقّي أكثر من 1350 يومًا على نهاية ولايته آنذاك، كانت إدارة ترامب تسير نحو المزيد من الفشل.
ومن جهة، إذا كانت الولاية الأولى لترامب اتسمت بتوجهات متصاعدة، فإن الثانية ستكون أسوأ؛ مزيج من الديكتاتورية غير المتقنة، والقرارات العشوائية التي قد تُعيق تدمير المؤسسات الديمقراطية، وتحفّز مقاومة شعبية متزايدة، وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك».
وظهر هذا بالفعل في نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والاحتجاجات الجماهيرية، ومجموعات التركيز، واستطلاعات الرأي، وأخيرًا في مؤشر ثقة المستهلك بجامعة ميشيجان، الذي سجّل ثاني أسوأ مستوياته منذ عام 1952، متأثرًا بتفاقم الأسعار، والبطالة، وارتفاع توقعات التضخم لأعلى مستوى منذ 44 عامًا.
نرجسية ترامب.. خطر دائم
وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، تكمن الخطورة في أن شخصية ترامب الانتقامية والنرجسية تجعله دائم السعي لتحميل الآخرين مسؤولية أزماته، واستغلال المعلومات كسلاح ضدهم.
يفتقر ترامب للتعاطف، وعندما يشعر بالضغط أو الهزيمة أو فقدان السيطرة، يدخل فيما يُعرف بـ”الانهيار النرجسي”، مما يؤدي إلى اندفاعات عنيفة، وتشويه متعمّد للحقائق، وغضب جامح.