لم يكن في حسبان واضعي أسس «التحالف النموذجي» بين كندا والولايات المتحدة أن يأتي يوم تُعلن فيه أوتاوا رسميًا فك الارتباط، بعد تحالف وُصف بأنه أقوى من حدود، وأعمق من المصالح، وأطول عمرًا من رؤساء وإدارات، لكنه الآن، ولأول مرة منذ أكثر من قرن، يتعرض لهزة وجودية عنوانها الصادم.. «نهاية العلاقة القديمة».
في خضم انشغال العالم بأزمات الطاقة والحروب والصراعات التكنولوجية، برزت كندا فجأة كدولة تقف على حافة انقلاب استراتيجي/ ليس ضد خصم، بل ضد الحليف الأكبر لها، ألا وهي الولايات المتحدة.
فمن خطاب رئيس وزراء كندا، مارك كارني، الذي تحدث بنبرة لم يُعهد بها زعيم كندي منذ استقلال البلاد عام 1867، تسرّبت رسائل أقرب إلى إعلان طلاق جيوسياسي صامت، سببه رجل واحد، ألا وهو، الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وفقًا لتحليل موقع «بوليتيكو» الأمريكي.
وأشارت «بوليتيكو»، إلى أن ما لا يُقال كثيرًا هو أن ترامب لم يكن أول من أشعل هذا الفتيل الصارخ، حيث بدأ الشرخ يتشكل منذ انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس للمناخ في عهد ترامب الأول، ثم تعمّق مع تعليق اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، ليصل إلى الذروة مع وصف ترامب لكندا علنًا بأنها “عبء اقتصادي” وتهديده بإلغاء الامتيازات الجمركية بين البلدين.
فكندا، التي تحتضن قرابة 90% من سكانها على بعد أقل من 160 كم من الحدود الأمريكية، تعلم تمامًا أن أي زلزال في العلاقة مع واشنطن لا يمكن أن يُعزل/ لكن المُدهش هذه المرة أن الصدمة قادمة من الحليف ذاته، لا من عدوه، وفي هذا السياق، جاء تحذير كارني أمام 41 مليون كندي: «عصر التكامل مع أمريكا انتهى….. ويجب أن نستعد لعالم لا تعتمد فيه كندا على أحد»، بحسب تعبيره.
ليكون السؤال الأبرز.. هل بات العالم أمام لحظة نادرة في التاريخ الحديث، حيث تنقلب المعادلة..، فكندا تبحث عن سيادة كاملة، بينما أمريكا تهددها بحصار اقتصادي ناعم؟ وهل يصبح ترامب، مرةً أخرى، فصلاً جديدًا في نهاية تحالفٍ ظنّ الكثيرون أنه غير قابل للكسر؟؟؟
«O» في وجه ترامب.. رد كندي بصوت عالٍ
في خطاب لاذع خلال الأسبوع الماضي، تعمّد رئيس وزراء كندا، مارك كارني تكرار كلمة “O” عدة مرات، في إشارة مباشرة إلى “رفضٍ دائري بلا نهاية” لسياسات ترامب، حيث جاء ذلك كرد على إعلان الأخير فرض ما أسماه بـ”رسوم يوم التحرير”، والتي تضمنت رسومًا جمركية جديدة على واردات السيارات والصلب والألمنيوم من كندا.
وردّت أوتاوا بالمثل، معلنة فرض تعرفة انتقامية بنسبة 25% على السيارات الأمريكية الداخلة إلى السوق الكندية، في خطوة تصعيدية غير مسبوقة منذ عقود، وجاءت هذه الإجراءات على خلفية اتهام ترامب لكندا بعدم بذل ما يكفي لمنع تسلل كميات ضئيلة من الفنتانيل عبر الحدود الشمالية بشكل غير قانوني.
صناعة السيارات… «الضحية الأكبر»
لم تكن صناعة السيارات مجرد قطاع اقتصادي عادي، بل كانت الرمز الأبرز للتحالف الصناعي الأمريكي الكندي، فقد بدأت الشراكة في هذا المجال عام 1965، تاريخ توقيع “اتفاقية السيارات” التي أسّست لتجارة حرة بلا حواجز جمركية، وجعلت من أونتاريو مركزًا محوريًا لصناعة المركبات في أمريكا الشمالية.
كارني، المولود في العام نفسه لتوقيع الاتفاق، قال إن تلك الاتفاقية شكّلت انطلاقة “لستة عقود من التعاون والنمو المشترك والازدهار الاقتصادي”، لكنه حذّر الآن من أن هذه المرحلة قد وصلت إلى نهايتها، ما لم يتم التوصل إلى صيغة جديدة ومتكاملة للعلاقات الثنائية.
أصداء الغضب تتردد داخل واشنطن
لم يكن الغضب الكندي منعزلاً عن أروقة السياسة الأمريكية، فقد هاجم السيناتور المستقل بيرني ساندرز سياسات ترامب قائلًا: “لقد أنهى ترامب صداقة امتدت لمئات السنين مع أقرب حلفائنا: كندا”.
بدورها، أعربت السيناتور الجمهورية ليزا موركوفسكي عن قلقها من تداعيات هذه الرسوم الجمركية الأمريكية، مؤكدة أنها “ستضر بولاية ألاسكا وستلحق الأذى بجيراننا الكنديين أيضًا”.
اقرأ أيضًا| رجل الأزمات المالية على رأس كندا.. من هو مارك كارني؟
كارني يحذر من قرارات ترامب الجمركية
وفي تحذير لافت، توقّع كارني أن تؤدي قرارات ترامب إلى تمزق في النظام الاقتصادي العالمي، واضعًا نهاية فعلية للدور الأمريكي القيادي الذي استمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
حيث قال رئيس وزراء كندا، ماركي كارني، بالحرف: “لقد انتهت فترة الثمانين عامًا التي قادت فيها الولايات المتحدة العالم اقتصاديًا، وأسست لتحالفات قائمة على الثقة والاحترام، وروّجت للتجارة الحرة والعادلة”.
وفي نبرة حزينة قال كارني: “نعم، إنها مأساة… لكن هذا هو الواقع الجديد”، وأوضح أن كندا سترد على هذا الواقع باتجاهين:
أولا: إعادة التفاوض على علاقتها الاقتصادية والأمنية مع الولايات المتحدة بعد انتخابات 28 أبريل.
ثانيًا: بناء تحالف دولي جديد من دول “متشابهة التفكير”، لا تكون فيه الولايات المتحدة بالضرورة شريكًا مركزيًا.
اتصال هاتفي يرسم خريطة المفاوضات القادمة
أشار رئيس وزراء كندا، مارك كارني، إلى اتفاق تم خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب يوم 28 مارس، يقضي بأن من يُنتخب رئيسًا للوزراء في كندا سيقود شخصيًا جولة التفاوض الجديدة.
والمفارقة أن كارني وخصمه المحافظ بيير بواليفير ـــ رغم خلافاتهما السياسية الحادة ـــ يتفقان على ضرورة التفاوض مع ترامب، مع أن الحملات الانتخابية بينهما لا تخلو من تبادل الاتهامات الحادة.
اقرأ أيضًا| الرسوم الجمركية على كندا| ماذا يقول التاريخ عن هذه التهديدات التجارية؟
بواليفير يهاجم ترامب
التحوّل اللافت في حملة بواليفير كان انتقاده العلني لدونالد ترامب، وهو أمر نادر في خطاباته، وبينما ندّد بالرسوم الجمركية الأمريكية، بقي تركيزه الأساسي منصبًا على مهاجمة “عقد الليبراليين الضائع”، ساعيًا إلى ربط كارني به رغم عدم توليه أي منصب رسمي في ذلك الوقت.
وفي خطابه الأخير قال: “في أول يوم لي كرئيس وزراء، سأتصل بالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب وأطالب بإعادة التفاوض فورًا على اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، وفق جدول زمني ضيق يمنحنا يقينًا اقتصاديًا”.
تحذير استراتيجي: «لا تتسرعوا في التفاوض مع ترامب»
أصدر فريق رفيع المستوى يضم نائب رئيس سابق للقوات الكندية، ووزير دفاع من عهد برايان مولروني، ومستشارًا سابقًا للأمن القومي، تقريرًا جديدًا خلال الأسبوع الماضي، يحث الحكومة الكندية المقبلة على التريث قبل الدخول في مفاوضات جديدة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وحذر التقرير من اتخاذ أي خطوات قبل “اتضاح الصورة وسط الفوضى السياسية الراهنة في واشنطن”.
ويحمل التقرير عنوانًا يعكس المزاج العام السائد في كندا: “الثقة المكسورة: إدارة علاقة مع حليف لم يعد يُوثق به”.
اقرأ أيضًا| ضرائب خفية.. تحليل ارتدادات رسوم ترامب الجديدة على جيب المواطن الأمريكي
كندا تبحث عن تحالفات جديدة خارج «العباءة الأمريكية»
أكد رئيس وزراء كندا، مارك كارني، في تصريحاته الأخيرة، أن على كندا أن تتحرك نحو بناء تحالفات جديدة، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.
وقال يوم الخميس خلال الأسبوع الماضي: “يجب أن تتطلع كندا إلى آفاق جديدة لتوسيع التجارة، وبناء الاقتصاد، وحماية السيادة الوطنية، ونحن مستعدون لقيادة تحالف دولي جديد يقوم على القيم المشتركة والتعاون الحقيقي”.
وفي أول جولاته الدولية بعد توليه المنصب، زار كارني فرنسا وبريطانيا لتجديد العلاقات مع القوى المؤسسة للتاج الكندي، كما تحدث مع قادة ألمانيا والمكسيك، أما الاتفاق الأحدث فكان مع أستراليا، لتزويدها بنظام رادار متقدم للمراقبة في القطب الشمالي.
كندا تعلن: العلاقة القديمة مع أمريكا «لم تعد كما كانت»
في تطور لافت، أعلنت وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، من بروكسل، أن العلاقة التقليدية مع الولايات المتحدة “لن تعود إلى سابق عهدها”، متجنبة استخدام عبارة “انتهت” التي استخدمها كارني، لكنها أوصلت الرسالة بوضوح.
وخلال اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو، قالت جولي: “نعلم أن العلاقة تغيرت إلى الأبد، هذه رسالتي لكل أوروبي: العلاقة مع أمريكا لم تعد كما كانت.”
وأضافت أن ترامب يسعى لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، وبدأ ذلك مع كندا، وتابعت: “نشتري من الولايات المتحدة أكثر مما تشتريه المملكة المتحدة وفرنسا والصين واليابان مجتمعة، لكن عندما تعامل زبونك الأول كما عوملنا، فهذا يعني أنك تريد تغيير قواعد اللعبة بالكامل”.
كندا تحذر: «نحن طائر الكناري في منجم الفحم»
سبق لجولي أن أطلقت تحذيرًا مشابهًا في اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع بمقاطعة كيبيك، عندما قالت: “إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على فعل هذا بنا ونحن أقرب حلفائها، فلا أحد في هذا العالم آمن”.
وأضافت: “كندا مثل طائر الكناري في منجم الفحم، ما يحدث معنا هو إنذار مبكر للعالم بأسره”.
وأكدت جولي مجددًا، من بروكسل، استعداد بلادها للرد بقوة، وذكرت أن كندا ستواصل ممارسة “أقصى ضغط” على واشنطن، بعدما وصلت قيمة الرسوم الانتقامية الكندية إلى 60 مليار دولار كندي.
ورغم هذا التصعيد، اختتمت جولي بتصريح واقعي: “الوضع كابوسي، لكن الشخص الوحيد الذي يمكنه تغيير مسار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب حقًا، هو الشعب الأمريكي نفسه.”
بصيص أمل في مكالمة واحدة
رغم التوتر المتصاعد، لم يخلُ المشهد من لحظة أمل خافتة، في مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي بين ترامب وكارني، وصف الرئيس الأمريكي رئيس الوزراء الكندي بـ”مارك” و”رئيس الوزراء”، وهو تطور غير معتاد بعد شهور من السخرية من سلفه جاستن ترودو، الذي كان ترامب يلقبه بـ”حاكم الولاية 51″، (بعد تلميح ترامب بضم كندا للولايات المتحدة آنذاك).
إلا أن نبرة ترامب الساخرة توقفت تجاه كندا، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في تصريحاته الرسمية، ووفقًا لموقع «بوليتيكو»، فربما انشغاله بالأزمات العالمية جعله يؤجل خلافه مع الجارة الشمالية، لكن الكنديين تعلموا الدرس، وهو أنه: «لم يعد هناك ما يمكن اعتباره أمرًا مسلمًا به في علاقتهم مع واشنطن».
مونتريال تتصدر المشهد: «كارني يدافع عن هوية كندا الثقافية»
بعد يومين من العمل الحكومي المكثف في أوتاوا، عاد رئيس وزراء كندا، مارك كارني إلى الحملة الانتخابية، متجهًا إلى مونتريال ـــ القلب التجاري والثقافي للكيبيك الناطقة بالفرنسية، هناك، تعهد بتعزيز تمويل هيئة الإذاعة الكندية في حال فوزه.
حيث قال باللغة الفرنسية: “الثقافة واللغة الفرنسية جوهر هوية كندا، واليوم، هذه الهوية مهددة علنًا من قبل رئيس الولايات المتحدة”.
وختم مارك كارني برسالة حاسمة:
“يريد ترامب أن يستوعب ثقافتنا، ثقافة كيبيك وكندا بأكملها، لكننا لن نسمح بذلك أبدًا، وسنقف دفاعًا عن ثقافتنا.. وهويتنا”.