جريدة مصر اليوم

في أربعة نماذج.. أسرار فوضى ترامب تتكشف وتفتح صندوق رئاسته المغلق

وسط صخب المشهد السياسي العالمي، تقف رئاسة دونالد ترامب أشبه بصندوق أسود، يحمل بداخله أسرارًا مضطربة لا تكشف عن نفسها إلا حين يصطدم الواقع بعنف مع التوقعات.

فخلال 100 يوم من حكم ترامب فقط، أعادت قرارات الرئيس الأمريكي، رسم سنوات من السياسة الأمريكية الخارجية، ولكن ليس بخطى واثقة منظمة، بل بفوضى عارمة يصعب فك شفراتها.

وبين التحولات السريعة، والتحالفات المرتبكة.. والانفجارات التجارية، تتكشف أربعة نماذج تشرح كيف انزلقت الإدارة الأمريكية إلى هذا المسار الغامض.

وفي السطور القادمة، نغوص معًا في محاولة لفهم ملامح تلك الفوضى التي فتحت أبواب الرئاسة على مصراعيها أمام تحولات غير مسبوقة.

كان رئيس سابق لمجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفيتي، فلاديمير لينين قد قال يومًا: “هناك عقود تمر بلا أحداث، وأسابيع يحدث فيها ما يُعادل عُقودًا”.

وبالمقاييس نفسها، حملت الـ 100 يوم من حكم ترامب خلال ولايته الرئاسية الحالية، ما يكفي من التحولات لملء عشرين عامًا من السياسة الخارجية.

جاءت هذه الفترة مشبعة بالتغيير العاصف، وأعادت رسم ملامح الدور الأمريكي في العالم بطريقة لم يكن أحد ليتوقعها.

واتبعت إدارة ترامب في سياستها الخارجية نهج “التحرك السريع وكسر الحواجز”، لكنها لم تجنِ منه سوى الفوضى…

حيث تقلبت مواقفها تجاه القضايا الدولية بشكل مُتسارع، فتارةً تقترب من روسيا للمفاوضات، وأخرى تدفع باتجاه وقف إطلاق النار في غزة، بينما تلوح بالتصعيد العسكري ضد إيران ثم تعرض اتفاقًا نوويًا جديدًا…

على صعيد آخر، ضربت الفوضى مؤسسات العمل الإنساني؛ إذ أُغلقت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) بشكل مُفاجئ، تاركة مستودعات ضخمة من المساعدات الغذائية تتعفن بلا توزيع.. أما في ملف الهجرة بالولايات المتحدة، فقد تجاوزت إدارة ترامب الحدود القانونية، حتى أنها استعانت بحكومة السلفادور لاحتجاز المهاجرين بدلاً من الحكومة الأمريكية بالولايات المتحدة.

امتدت حالة الارتباك إلى السياسات التجارية، حيث فُرضت رسوم جمركية ثم أُلغيت بنفس سرعة كبسة زر، في مشهد عكس كيف أن مصير الاقتصاد العالمي صار مرتبطًا بنزوات مفاجئة.. ووسط هذه الفوضى، بات السؤال الأكبر.. «كيف يمكن تفسير هذا الاندفاع غير المنضبط؟».

وفقًا لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، من الواضح أن إدارة ترامب لم تكن تسعى إلى الاستمرار على نفس الخط القديم للسياسة الخارجية الأمريكية، بل كانت تهدف إلى إحداث تغيير جذري، رغم أن اتجاه هذا التغيير بدا ضبابيًا.. ولفهم ما حدث، تبرز 4 نماذج تفسيرية رئيسية تساعد على تفكيك قرارات الإدارة الأمريكية خلال الـ 100 يوم من حكم ترامب الأولى.

وفي هذا السياق، تسلط «بوابة أخبار اليوم» الضوء، عبر السطور التالية، على النماذج الأربعة التي تفسر فوضى ترامب، من خلال أربعة سيناريوهات متكاملة، تكشف الصورة الكاملة لحكمه في أول 100 يوم.

خلال 100 يوم من حكم ترامب فقط، كشفت إدارة الرئيس الأمريكي، عن ملامح فوضى عميقة في السياسة الخارجية، حيث تصارعت الرؤى وتبددت الخطوط التقليدية التي لطالما رسمت ملامح الدور الأمريكي في العالم، ومن خلال أربع نماذج تفسيرية تشكف هذا المشهد المربك، بين عودة الواقعية الصارمة، وتأثير السياسة الداخلية بالولايات المتحدة، وحنين إلى ممارسات الحقبة الأولى، وصراع داخلي يفتك بالحزب الجمهوري نفسه.

وسلطت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية الضوء على تحليل الوضع بأدق تفاصيله، الذي نحاول هنا أن نفكك خيوطه بلغة أوضح، لنكشف ملامح الفوضى التي قد تُحدد مصير أمريكا والعالم في السنوات القادمة.

النموذج الأول.. «عودة السياسة الواقعية»

النموذج الأول الذي يفسر سياسة دونالد ترامب الخارجية يبدو الأكثر تماسكًا، هو أن الإدارة الأمريكية تحاول العودة بقوة إلى السياسة الواقعية، موجهة تركيزها إلى الصين ونصف الكرة الغربي أكثر من أوروبا أو الشرق الأوسط، كما أن التوتر مع الحلفاء الأوروبيين يُفهم في هذا السياق كمحاولة “نيكسونية” لإعادة ترتيب الالتزامات الاستراتيجية الأمريكية بعد فترات طويلة من التوسع.

ومن هذا المنظور، لا تتخلى إدارة ترامب عن زعامة النظام الدولي القائم على القواعد، بل تعترف بالنفاق الذي لطالما شابه، مؤكدةً أن مصلحة الولايات المتحدة تأتي أولًا وقبل أي شعارات ديمقراطية أو حقوق إنسان.

تعامل ترامب مع أوروبا نموذج حي لهذا التفكير.. من الضغط على الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعي، إلى محاولة التوصل لتسوية مع روسيا بشأن أوكرانيا على غرار الحرب الروسية الأوكرانية، أيضًا، استخدام التهديد بالرسوم الجمركية الأمريكية على كندا أو المكسيك أو أوروبا جزء من هذا النهج، إذ يُنظر إليه كوسيلة لتحقيق مكاسب سريعة، حتى لو كانت نتائجه طويلة الأمد محل شك.

الاهتمام المفاجئ بالغرب نصف الكرة الأرضية – مثل جولات وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو في أمريكا اللاتينية، والقلق بشأن النفوذ الصيني في قناة بنما، وحتى فكرة شراء جزيرة جرينلاند ــ كلها تدخل ضمن إطار القوة الصلبة، بدعم واضح من كبار المسؤولين الأمريكيين الذين يتبنون الواقعية.

ومع ذلك، يواجه هذا النموذج عقبات، إذ يصعب تفسير سياسات ترامب تجاه إسرائيل ضمن الواقعية التقليدية، وكذلك تفكيك مؤسسات السياسة الخارجية مثل إذاعة صوت أمريكا والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، رغم أهميتهما في مواجهة النفوذ الصيني والروسي، كما أن فرض الرسوم الجمركية الأمريكية على شركاء قريبين مثل كندا والمكسيك لا ينسجم مع منطق الواقعية الصارمة التي تهدف عادةً لتقوية التحالفات لا إضعافها.

النموذج الثاني.. السياسة الداخلية تتحكم بالسياسة الخارجية

النموذج الثاني يرى أن السياسة الخارجية لترامب مجرد امتداد للسياسات الداخلية، مدفوعة بحسابات انتخابية أو خدمة مصالح الأغنياء، فمثلًا، هاجم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور بيرني ساندرز تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، معتبرًا أن ذلك يخدم أصحاب المليارات أمثال إيلون ماسك على حساب الفقراء في العالم.

أما تصرفات وزارة كفاءة الحكومة (DOGE) وعداء الإدارة للبيروقراطية الفيدرالية يكشفان أيضًا هذا المنطق.. وهو تفكيك وكالات غير محبوبة لدى القاعدة الجمهورية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة التعليم الأمريكية، مقابل حماية مؤسسات أخرى مثل وزارة الدفاع والضمان الاجتماعي.

أما في الاقتصاد، خلقت سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية حالة من الارتباك، وأرعبت الأسواق العالمية، وسط غموض حول الهدف منها، هل هي لتحسين الصفقات التجارية؟ أم ورقة ضغط سياسية مع دول الجوار؟ أم محاولة أعمق لإضعاف الدولار الأمريكي وإعادة الصناعة الأمريكية؟

أوضحت مجلة «فورين بوليسي»، أن خطابات المسؤولين بالبيت الأبيض مثل نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، التي ركزت على الهجرة والهوية الثقافية أكثر من السياسة التقليدية، تعكس انغماس السياسة الخارجية في معارك السياسة الداخلية.

ورغم ذلك، هذا النموذج لا يفسر كل شيء.. فهو لا يُفسر استمرار التركيز الأمريكي على الشرق الأوسط، ولا الدعم المطلق لإسرائيل، بل يكشف أحيانًا عن علاقة عكسية، حيث تدفع السياسات الخارجية إلى تقييد الحريات داخليًا، مثلما حدث مع قمع بعض المظاهرات المؤيدة لفلسطين بالولايات المتحدة وبالجامعات الأمريكية خاصةً.

النموذج الثالث.. تكرار لما حدث في الولاية الأولى

النموذج الثالث يقترح أن الفوضى الحالية مجرد تكرار لما حدث في الولاية الأولى، بداية مرتبكة وفوضوية، تليها عودة تدريجية إلى سياسة جمهورية تقليدية قائمة على السيادة، والأحادية، واستخدام القوة العسكرية، فبالفعل، خلال ولايته الأولى (ترامب)، كانت استراتيجية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب للأمن القومي تقليدية نسبيًا رغم الأسلوب الفوضوي والتغريدات المثيرة.

أما الانفتاح على روسيا، مثلًا، يمكن تفسيره بتفضيل ترامب الشخصي للزعماء الأقوياء، وسعيه للجوائز والإنجازات،، ومع تقدم الوقت، توقع كثيرون أن يعود ترامب إلى النهج الجمهوري التقليدي تجاه قضايا مثل أوكرانيا، ولكن مع ذلك، ظهرت تناقضات، حيث إن دعم ترامب لإسرائيل يصطدم بأهدافه الأخرى مثل مواقفه تجاه إيران التي أثارت قلق الجمهوريين التقليديين الذين يطالبون بموقف أكثر حزمًا.

حتى داخل الحزب الجمهوري، واجه ترامب مقاومة من صقور السياسة الأمريكية، مثل عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، ميتش ماكونيل، الذين اعترضوا على بعض تعييناته في وزارة الدفاع، بالتالي، إذا كان هناك اندماج بين “ترامب وريجان” كما يطمح بعض الجمهوريين، فإنه لا يزال بعيدًا عن التحقق.

النموذج الرابع.. صراع داخلي داخل الحزب الجمهوري
النموذج الرابع يرى أن فوضى ترامي نتيجة صراع داخلي مرير داخل الحزب الجمهوري بين تيارين أولا: تيار قومي حمائي يركز على الصين ويدير السياسة الخارجية برؤية أكثر انغلاقًا، وثانيًا: تيار تقليدي متمسك بالأممية والتحالفات.

وغرائز ترامب تميل للتيار الأول، ولكن كما حدث في ولايته الأولى، يظل قابلًا للتأثر بمستشاريه، فضلا عن القضايا الخلافية مثل التعامل مع روسيا وإيران وإسرائيل هي تشعل هذا الصراع، كما ظهرت في مواقف متباينة بين المسؤولين داخل إدارة ترامب/ مثلًا، جرى تهميش المبعوث الأمريكي إلى أوكرانيا، كيث كيلوج، بسبب خلافات بالرأي مع ترامب ونائبه، وحتى مع شخصيات نافذة مثل مستشار الأمن القومي مايك والتز، يظهر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أقل ميلًا للإنصات مقارنة بالماضي.

فمؤخرًا، تمت إقالة عدد من موظفي مجلس الأمن القومي بسبب اتهامات بعدم الولاء، مما يشير إلى أن النزاعات الداخلية ستظل تؤثر على قرارات السياسة الخارجية، وعلى الرغم من أن بعض المؤشرات ترجح ميل إدارة ترامب الحالية إلى نموذج أكثر قومية وتركيزًا على شعار «أمريكا أولًا»، إلا أن إقالة شخصيات بارزة من وزارة الدفاع الأسبوع الماضي توحي بأن الصراع لم يُحسم بعد.

وفي النهاية، وعلى الرغم من مرور 100 يوم من حكم ترامب فقط، تبدو فوضى السياسة الخارجية الأمريكية «مرشحة للاستمرار وربما التفاقم».. فكما أظهرت التجربة، كثير من الأزمات الكبرى في عهد ترامب لم تبدأ إلا بعد اجتياز هذا الحاجز الزمني، وما إذا كان ترامب سيُخضع الحزب الجمهوري لإرادته أو العكس، يظل سؤالًا مفتوحًا، يجعل من السابق لأوانه الحديث عن “عقيدة ترامب” واضحة المعالم.

ومع استمرار فوضى ترامب، سيكون على العالم أن يستعد لأربع سنوات أخرى لا تقل فوضوية عن الـ 100 يوم الأولى من حكم ترامب.

Exit mobile version