في واقعة علمية أثارت دهشة الأوساط الطبية والأثرية حول العالم، كشف فريق من الباحثين في عام 2015 عن وجود عملية جراحية متقدمة داخل ركبة مومياء مصرية تعود إلى عصر الدولة الحديثة، أي قبل نحو 3500 سنة. المومياء، التي تعود لسيدة خمسينية، كانت تخفي في ركبتها اليمنى سرًّا تقنيًّا لم يُعرف في الطب الحديث إلا بعد آلاف السنين، ما يُعيد رسم حدود ما نعرفه عن الطب في الحضارة المصرية القديمة.
خلال فحص روتيني بإحدى المؤسسات البحثية لمومياء مصرية تعود إلى عصر الدولة الحديثة، لفت انتباه العلماء جسم معدني غريب داخل ركبة السيدة المحنطة. دفعهم الفضول العلمي لإجراء تصوير شامل للمنطقة، ليكتشفوا وجود مسمار معدني يبلغ طوله 23 سنتيمترًا مزروعًا بإتقان داخل الركبة، ومثبتًا بمادة عضوية تشبه الصمغ اخترقت العظام والأنسجة.
◄ فحص للمومياء
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في مجرد وجود هذا الجسم الغريب، بل في دقّة تصميمه ووظيفته الطبية، حيث تبيّن أن هذا المسمار كان جزءًا من عملية جراحية تهدف لتقويم عظام الركبة، ما يدل على معرفة عميقة بالتشريح ووزن الجسم ودعمه الحركي.
المثير في الأمر أن هذه التقنية لم تظهر في الطب الحديث إلا في القرن الثامن عشر، على يد الطبيب الفرنسي «نيكولا أندري» عام 1741، مما يعني أن المصريين القدماء سبقوا العالم بثلاثة آلاف عام في هذا المجال الدقيق.
ونظرًا لغرابة ودقة الاكتشاف، تم استدعاء الخبير العالمي في جراحة العظام الدكتور «ريتشارد جاكسون»، رئيس قسم جراحة العظام بجامعة بريغهام الأميركية، والذي أبدى انبهاره الكبير بعد فحصه للمومياء.
اقرأ أيضا| حكايات| لغز «مومياء الرجل المجهول E للأمير بنتاؤور» في المتحف المصري
وصرّح جاكسون قائلًا: «من غير المعقول أن تُجرى عملية بهذه الدقة قبل آلاف السنين.. تصميم المسمار والدعامة المحيطة به يوازي التقنيات الحديثة في توزيع وزن الجسم ودعمه، تمامًا كما نفعل اليوم في جراحات استبدال الركبة».
وأضاف في مؤتمر صحفي: «لو كنا اكتشفنا هذا الاكتشاف قبل مئة عام فقط، لكان من الممكن أن نوفر على البشرية الكثير من الوقت والجهد في البحث والتطوير الطبي».
هذا الاكتشاف الفريد يُعيد التأكيد على أن علم المصريات لا يزال يخفي أسرارًا علمية هائلة، وأن الحضارة المصرية القديمة لم تكن فقط متقدمة في العمارة والدين والفلك، بل كانت رائدة أيضًا في مجال الطب والجراحة، بما يفوق أحيانًا فهمنا العلمي الحديث.
ما زال هذا الاكتشاف يُعرض في دوائر البحث الأكاديمي كدليل على عبقرية المصري القديم، ويجري العمل حاليًا على دراسة المزيد من المومياوات للبحث عن مؤشرات أخرى قد تغيّر مفاهيمنا عن التاريخ الطبي للبشرية. فهل نكون أمام عصر جديد من الاكتشافات الطبية المستوحاة من الماضي؟
◄ أغرب الاكتشافات
تُعد هذه الحادثة من أندر وأغرب الاكتشافات التي شهدها علم المصريات في العصر الحديث، حيث تمثل دليلًا ماديًا ملموسًا على أن المصري القديم لم يكن فقط عالِمًا في مجالات العقيدة والتحنيط والعمارة، بل كان أيضًا جرّاحًا بارعًا يتمتع بمعرفة تشريحية متقدمة.
وقد أشار الباحثون إلى أن المادة التي استخدمت لتثبيت المسمار داخل الركبة كانت عضوية تشبه الصمغ الطبيعي، وهو ما يدل على دراية المصريين القدماء بمواد تُشبه اليوم ما يُعرف بـ«الراتنجات الطبية» التي تُستخدم لتثبيت الأطراف الاصطناعية أو دعم العظام في الطب الحديث.
ولم يكن الاكتشاف صدفة، بل جاء ضمن مشروع علمي يهدف إلى استخدام تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد والأشعة المقطعية في دراسة المومياوات دون الإضرار بها. هذا المشروع، الذي يجمع بين التكنولوجيا الحديثة وعلم الآثار، قد فتح الباب أمام العديد من الاكتشافات المشابهة، لكنه لم يشهد شيئًا بقدر غرابة وتعقيد “مسمار الركبة” هذا.
◄ الطب الفرعوني
وبحسب تصريحات الفريق الطبي المشارك في الدراسة، فإن تصميم المسمار، من حيث الزاوية والدعائم الدقيقة، يشير إلى فهم عميق لتوزيع الوزن وقوى الضغط داخل مفصل الركبة، وهو ما تطلب في الطب الحديث قرونًا من التطوير للوصول إليه.
وقد دعا الاكتشاف العديد من الجامعات والمراكز البحثية الدولية إلى إعادة النظر في التاريخ الزمني لتطور الطب والجراحة، وبدأت بالفعل ورش عمل ومؤتمرات علمية تحمل عنوان: “الطب الفرعوني: الجذور القديمة للمعرفة الحديثة”.
كما طُرحت تساؤلات كبيرة:
هل كان المصري القديم يُجري جراحات بمثل هذا التعقيد بشكل منتظم؟
وهل تم دفن أسرار طبية ضخمة في مقابر لم تُفتح بعد؟
من جهته، أعلن المتحف المصري بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار عن نيّته عرض هذا الاكتشاف في معرض خاص تحت عنوان: “الطب في مصر القديمة: أسرار لم تُروَ” وسيتضمن العرض نماذج مجسمة للمسمار المكتشف، وصورًا دقيقة من الأشعة المقطعية، إلى جانب شروح علمية مبسطة تتيح للجمهور فهم حجم هذا الإنجاز.
في كل مرة نظن أننا اكتشفنا كل ما في الحضارة المصرية من أسرار، تفاجئنا أرض الفراعنة بما يعيد تشكيل قناعتنا عن حدود المعرفة القديمة. مومياء تحمل في ركبتها “مسمارًا طبيًا” منذ أكثر من 3500 سنة، تُثبت أن المصري القديم كان، بحق، سابقًا لعصره بآلاف السنين. فهل نكتفي بالدهشة، أم نعيد فتح دفاتر التاريخ لقراءتها من جديد؟