في وقت تُصعّد فيه إسرائيل عدوانها على غزة وتستعد لهجوم بري «مُكثف»، يتكشف ما لم يكن مُتوقعًا داخل الجيش الإسرائيلي نفسه.. حالة تمرّد صامتة يقودها جنود وضباط وطيارون وأطباء، أعلنوا رفضهم المشاركة في حرب يعتبرونها مبنية على أكاذيب حكومة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
إيران تامير.. جندي مشاة إسرائيلي خدم أربع جولات خلال الحرب في غزة 18 شهرًا، كان من أوائل من فجّروا هذا الرفض العلني برسالة نشرتها صحيفة «والا» العبرية، قال فيها بوضوح: «هذه حرب أهدافها كاذبة… ومن المشروع رفضها».
وما بدأ بعد هجوم 7 أكتوبر، تحوّل اليوم إلى حالة تمرد متزايدة ضد استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، في وقت تشهد فيه إسرائيل تراجعًا أخلاقيًا وتصدعًا داخليًا في ثقة الجنود بسياسات حكومتهم، حيث إنه وبعدما تم استدعاء آلاف الاحتياطيين، قرر بعضهم الانسحاب من ميدان الحرب في غزة بصمت، وآخرون اختاروا المواجهة بالكلمة رفضًا لمشاركتهم في الحرب.
وتستعرض «بوابة أخبار اليوم» في السطور التالية تفاصيل هذا التمرّد المتصاعد داخل الجيش الإسرائيلي، وخلفياته، ورسائله التي بدأت تهز صورة جيش الاحتلال من الداخل.
تراجع حاد في استجابة جنود الاحتياط
يشهد الجيش الإسرائيلي موجة تمرّد صامتة، حيث تتراجع نسب التحاق جنود الاحتياط بوحداتهم، حتى في أصعب لحظات التصعيد العسكري.
ما بين احتجاجات علنية ورفض هادئ، أعرب عدد مُتزايد من الجنود والضباط الإسرائيلين السابقين عن رفضهم للمشاركة في الحرب على غزة، مؤكدين أنها لا تخدم “مصلحة الشعب الإسرائيلي”، على حد تعبيرهم.
ووفقًا لما أفادت به مجلة ذا نيويوركر الأمريكية، كتب ضابط إسرائيلي سابق، يُدعى مايكل ماير، أنه التحق بالجيش الإسرائيلي للحماية، لا لخوض حرب “متضاربة مع القيم والمصالح”، بحسب وصفه.
كما وقّع نحو ألف طيار إسرائيلي على بيان يُطالب بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين “ولو تطلب ذلك وقف الحرب فورًا”، ما دفع سلاح الجو الإسرائيلي لاستبعادهم من صفوف الاحتياط، وقد تكررت هذه المواقف من أطباء وجنود في وحدات النخبة مثل 8200.
وعلى أأرض الواقع، يُمارس آلاف الجنود في الجيش الإسرائيلي ما يُعرف بـ«الرفض الهادئ» بمجرد تجاهل أوامر الاستدعاء.
ولأن جيش الاحتياط الإسرائيلي يمثل نحو 70% من قوام القوات الإسرائيلية، فإن الغياب الجماعي يمثل أزمة حقيقية، ويعاني هؤلاء من الإنهاك النفسي والجسدي، وتتصاعد بين صفوفهم الأصوات التي ترى أن البقاء في المنزل صار أكثر نفعًا من القتال، حتى أصبح الإلزام العسكري الذي ظل جزءًا من الهوية الإسرائيلية لعقود، يتصدّع بصمت.
تحذيرات داخلية: وحدات داخل الجيش الإسرائيلي «تم حلها بالكامل»
رغم صمت الجيش الإسرائيلي الرسمي حول نسب الغياب في صفوف الجيش، إلا أن تقارير إعلامية كشفت تحذيرات داخلية من انهيار جزئي في الجاهزية، فبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، أبلغ رئيس الأركان الإسرائيلي، الوزراء الإسرائيليون بأن النقص في القوات قد يُفشل أي أهداف عسكرية في غزة.
بل وإن بعض الوحدات، وفق قوله، «تم حلها بالكامل»، وتحدثت مجنّدة للقناة 12 الإسرائيلية، وصفت الوضع بأنه “يائس”، في مشهد يوضح أزمة غير مسبوقة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
ماذا يحدث داخل صفوف جيش الاحتلال؟
وفي ذات السياق، شارك قائد قتالي في الاحتياط، يدعى نير، في أغلب جولات الحرب في غزة، لكنه الآن يتحدث بمرارة، ويقول إن وحدته خدمت أكثر من 200 يوم، ما تسبب في انهيار زواجات وفقدان وظائف، حيث إنه وفق استطلاع رسمي، فإن أكثر من 40% من جنود الاحتياط خسروا أعمالهم بعد العودة من الخدمة، كذلك تراجعت نسبة المشاركة في القتال بشكل ملحوظ، وأضاف نير: «كنا 60% في الجولة السابقة، والآن بالكاد نصل إلى 50%».
رغم خلفيته اليمينية، بدأ نير يطرح تساؤلات حادة عن جدوى القتال والحرب في غزة، في البداية اعتقد أن مشاركته تضغط للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، لكنه الآن يرى أن التصعيد العسكري يهدد حياتهم بدلًا من حمايتهم، ويقول: «أشعر بالخزي من حكومتي ومن الطريق الذي سلكناه»، بحسب تعبيره.
حتى قرر يائير، مؤخرًا إنهاء خدمته بهدوء، رغم اندفاعه في البداية للقتال في ميدان الحرب في غزة، إلا أن عامًا من القتال أنهكه نفسيًا وأفقده توازنه العائلي والمهني، وكتب لقائده: «أحتاج للتوقف.. عائلتي لا تحتمل المزيد»، ورغم قراره، يعرب يائير عن أنه لا يزال يعيش شعور الذنب ويجد صعوبة في النوم/ ويقول: «شعرت أنني أخون زملائي.. لكن لم أعد قادرًا على الاستمرار في الحرب».
المجاعة تطرق أبواب غزة
يُذكر أنه قد انهار اتفاق وقف إطلاق النار في مارس، بعد تعثر متبادل بين إسرائيل وحركة “حماس” الفلسطينية للوصول لشروط تهدئة، ومنذ ذلك الحين، مُنعت المساعدات الإنسانية من دخول القطاع، ما وضع غزة على حافة المجاعة، فنحو نصف مليون إنسان يواجهون خطر الموت جوعًا، حسب تقديرات أممية، حتى أن منظمة “المطبخ المركزي العالمي”، التي كانت مصدر الغذاء الرئيسي لسكان غزة، أعلنت نفاد مخزونها بالكامل.
وفي الداخل الإسرائيلي، كشفت تسريبات صحفية وثائق وزعتها الحكومة الإسرائيلية على قادة جيش الاحتلال تتضمن أهداف العملية الجديدة في غزة ــ وفقًا لما أفادت به مجلة ذا نيويوركر الأمريكية ــ لكن المثير أن «القتال الميداني» تصدر القائمة، بينما جاء الإفراج عن الأسرى في المرتبة السادسة، والمفارقة أن غالبية الإسرائيليين، وفق استطلاع رأي، يرون أن ملف الأسرى يجب أن يكون الأولوية القصوى.
هل الهجوم «المحتمل» المقبل حقيقي أم ورقة ضغط؟
تكثف إسرائيل استعداداتها لهجوم بري واسع في غزة، لكن حتى الآن لم تُنفذ العملية العسكرية الإسرائيلية، فيما يربط البعض مصيرها بنتائج محادثات ترامب ونتنياهو، وسط شكوك متزايدة حول كونها مجرد ورقة ضغط تفاوضي، وفي ذات السياق، كتبت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية: «إذا لم يُنجز اتفاق خلال محادثات ترامب، فإن الهجوم سيتحرك فورًا».
وقال أوري أراد، وهو ملاح حربي إسرائيلي سابق يبلغ من العمر 73 عامًا، إنه تلقى تساؤلات من شبابٍ كثيرين حول قرارهم بالخدمة العسكرية، رغم أنهم لطالما تهربوا منها في الماضي، وأشار إلى أراد، إلى أنه لا يمنحهم توجيهات مباشرة، بل يخبرهم بما كان سيفعله لو كان في مكانهم، وهو «الرفض في المشاركة في الحرب».
ويرى أراد، أن قرار الحكومة الإسرائيلية بمواصلة العمليات العسكرية في غزة بدلًا من الالتزام باتفاق تبادل الأسرى هو بمثابة تخلٍّ عن الأسرى، وبحسب رأيه، فإن الخسائر البشرية المتزايدة في صفوف المدنيين الفلسطينيين باتت لا تُحتمل أخلاقيًا أو سياسيًا، وأن الحرب في غزة قد أضعفت الأخلاق الإسرائيلية وأثّرت على صورتها عالميًا، ومزّقت نسيجها المجتمعي.
وعلى الرغم من استمرار الخدمة العسكرية لدى عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن الشعور بالإنهاك والضغط المُتزايد يطغى على الأجواء، ورغم أن 35% فقط من الإسرائيليين يعتقدون أن استمرار القتال يخدم مصلحة إسرائيل، فإن شركاء الحكومة الإسرائيلية من التيار القومي المتشدد يرفضون إنهاء العمليات، ملوّحين بإسقاط حكومة الاحتلال الإسرائيلي في حال حدوث ذلك، ويتبنون رؤية تدعو إلى بقاء دائم في قطاع غزة، سواء عبر الوجود العسكري الإسرائيلي في ميدان الحرب أو من خلال مشاريع استيطانية.
غزة تحت الأنقاض
بعد مرور 18 شهرًا على الحرب على غزة، لا يزال القطاع مدمّرًا، بينما تواجه إسرائيل موجة متزايدة من العزلة والانتقادات الدولية.
وفي الداخل الإسرائيلي، يرى 53% من الإسرائيليون أن الحرب في غزة باتت تخدم مصالح شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لا الأهداف تل أبيب.
ويقول معارضوه إنه (نتنياهو) يُحاول صرف الأنظار عن ملفات سياسية وقضائية حساسة، منها محاكمته المستمرة في قضايا فساد، وتحقيقات بشأن تمويل حملات دعائية لصالحه.
«ازدواجية في معايير التجنيد»
رغم تشديد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو على رفض أي تهاون في أداء الخدمة العسكرية الإسرائيلية، إلا أنه لطالما دافع عن إعفاء أبناء تيار (الحريديم) من التجنيد، وهذه الفئة تُعد ركيزة أساسية في ائتلافه الحكومي، وقد هدد ممثلوها مؤخرًا بمقاطعة أعمال البرلمان ما لم يتم تمرير قانون يعفي طلاب مدارس (الحريديم) من الخدمة الإلزامية.
ورغم استمرار حكومة نتنياهو في القتال وسط أزمات غير مسبوقة في تل أبيب على رأسها غضب أهالي الأسرى الإسرائيليين بسبب سياسات رئيس وزراء الاحتلال تجاه ملف الأسرى، فإن الدعوات المتزايدة لتحقيق عدالة في التجنيد داخل صفوف جيش الاحتلال تُهدد استقرارها.
خاصةًا بعدما أرسل الجيش الإسرائيلي إلى نحو 19 ألف استدعاء لأبناء تيار (الحريديم)، ولم ينضم منهم سوى أقل من 300 شخص، وقالت زوجة جندي مظلي إسرائيلي سابق من تل أبيب: «إننا نشعر أننا من يدفع الثمن، بينما يرفض الآخرون المشاركة»، حيث قد التحق زوجها بالخدمة من جديد هذا الأسبوع، ليس إيمانًا منه بالقتال في ميدان الحرب في غزة ــ على حد وصفها ــ بل فقط وفاءً لأصدقائه.
وقال إزحاكي جليك، وهو ضابط في قوات الاحتياط بإحدى وحدات الكوماندوز التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، إن خدمته التي بدأت قبل أكثر من 420 يومًا لا تزال مستمرة.
ويصف زملاءه بأنهم من أكثر (المواطنين) التزامًا، لكنه يعترف بتزايد الشعور بالإرهاق، وقد أعرب أن رفض الحريديم لـ الخدمة العسكرية الإسرائيلية «إشكالية أخلاقية تمس الأمن القومي»، على حد قوله.
نظام التناوب والتجنيد عبر الإنترنت
لمنع الانسحابات من الخدمة العسكرية الإسرائيلية، لجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى نظام يُعرف بـ«أسبوع مقابل أسبوع»، حيث يخدم الجندي الإسرائيلي أسبوعًا، ثم يعود لأسرته أسبوعًا آخر، ويتقاضى أجرًا في الحالتين، كان هذا النظام مُخصصًا سابقًا للمهام الأقل طلبًا مثل «الطهي والقيادة»، لكنه «بات يُستخدم مع الجنود المقاتلين أيضًا»، وفقًا لما نقله موقع «واي نت» الإخباري.
وبحسب مجلة ذا نيويوركر الأمريكية، بدأ مسؤولو الجيش الإسرائيلي بنشر إعلانات تجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشرت إحدى الصفحات الشهيرة على فيسبوك إعلانًا جاء فيه: «هل تبحث عن هدف؟ انضم إلينا!»، مُعلنة الحاجة لمقاتلين في وحدة إسرائيلية مدرعة بقطاع غزة، ومن بين المتطلبات، أن يتوفر «خبرة قتالية، ومعرفة بالحرب في المناطق الحضرية، واستعداد عالٍ لتحمّل الأعباء»، ولم يحدد الإعلان تاريخًا لنهاية المُهمة، بل وصفها بأنها «مفتوحة المدة».