لطالما قدّم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نفسه بصفته التاجر الذي سيعيد لأمريكا هيبتها التجارية ويُعيد صياغة النظام العالمي عبر «فن الصفقة»، لكن خلف ستار الخطابات النارية والوعود الانتخابية، ظهرت خيانة اقتصادية غير مُعلنة، طالت بالأساس أولئك الذين كان يُفترض أنهم «حلفاؤه الطبيعيون»، من الطبقة المتوسطة، والصناعات الأمريكية الصغيرة، وحلفاء واشنطن التجاريين في الخارج.
ففي الوقت الذي وعد فيه ترامب الأمريكيين بانخفاض الأسعار وعودة «الازدهار العظيم»، رفع شعاره الأثير: «الرسوم الجمركية أولًا»، مُعلنًا أنها «أجمل كلمة في حياته»، دون أن يذكر أنها ستُفرض كضريبة غير مباشرة على المستهلكين أنفسهم، والنتيجة.. لم تُعد الأسعار فحسب إلى الارتفاع، بل تضررت قطاعات بأكملها في الداخل والخارج.
وعلى غرار ذلك، وجد حلفاء واشنطن الاقتصاديون ـ كالاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك واليابان ـ أنفسهم فجأة في مرمى نيران سياسات كانت أقرب إلى الابتزاز منها إلى الشراكة، ما دفع البعض إلى الرد بإجراءات مُضادة، بحسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية.
وتستعرض «بوابة أخبار اليوم» في السطور التالية، كيف أدّت السياسات الاقتصادية الحمائية التي تبنّاها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وعلى رأسها سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية العقابية، إلى قلب الطاولة على أقرب حلفائه، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، وبدلًا من أن تعزز شعبيته أو تُنعش الاقتصاد كما وعد، كشفت تلك السياسات عن تناقضات حادة في استراتيجياته، وأدت إلى نتائج عكسية تهدد بتفكيك القاعدة الانتخابية التي حملته إلى الحكم في يناير 2025.
تحالف هشّ ووعود متضاربة
أشارت مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، إلى أنه ربما كانت أكثر اللحظات تناقضًا هي حين ظهر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب على شاشة التلفزيون، يحث الأمريكيين على تعليم أطفالهم «الرضا بالقليل»، مُؤكدًا أنهم لا يحتاجون إلى 30 دمية بل ثلاث فقط، فبدا وكأنه يطلب من الآخرين أن يتحملوا تقشّفًا فرضته سياساته، بينما هو نفسه رمز للإسراف ــ بحسب المجلة الأمريكية ذاتها ــ وهذا التناقض كشف حدود «النهج الترامبي» القائم على المعاملات قصيرة النظر، وعرّى هشاشة وعوده الاقتصادية التي سُرعان ما اصطدمت بجدار الواقع.
لم يقتصر ارتباك ترامب على الاقتصاد العالمي وحده، بل انسحب على كافة الملفات، من الداخل الأمريكي إلى ساحات السياسة الخارجية.
فعلى مدار حملته، قدّم وعودًا متناقضة ترضي كل طرف، بدايةً من تعهّدات لكبار المستثمرين، وإشارات دعم لعمال المصانع؛ وخطاب تصالحي للعرب، ونبرة متشددة لإسرائيل؛ ووعود للانعزاليين بإغلاق جبهات الحروب، وتصعيد في ملفات كإيران وفنزويلا.. لكن حين وصل إلى المكتب البيضاوي في يناير 2025، اصطدم بهذه التعهدات المتضاربة، واضطر للاختيار، ليخسر بذلك ثقة إحدى دوائره الانتخابية.
وهناك مثال صارخ على عبثية سياسات ترامب هو تعامل الرئيس الأمريكي، مع كبار روّاد الأعمال، مثل جيف بيزوس، مؤسس «أمازون»، الذي حاول مرارًا كسب ود ترامب، فتبرع بمليون دولار لحفل تنصيبه، وحضر المناسبة بنفسه، بل وأعاد هيكلة صحيفة «واشنطن بوست» لتصبح أقل عدائية تجاه سياساته.
حتى أنه خصّص 40 مليون دولار لإنتاج فيلم وثائقي عن ميلانيا ترامب!، لكن كل هذه الجهود لم تشفع له، فقد طالت «أمازون» الرسوم الجمركية الأمريكية، وارتفعت أسعار منتجاتها، حتى اضطرت الشركة للتفكير في تحميل العملاء فروق الأسعار، قبل أن تتراجع تحت ضغط البيت الأبيض.
ماسك يثور.. ويصفهم بـ«الأغبياء»
بينما اختار جيف بيزوس التهدئة، لم يتردد إيلون ماسك في المواجهة، فالرجل الذي عمل سابقًا ضمن إدارة ترامب لتحسين كفاءة الحكومة، لم يحتمل رؤية شركته «تيسلا» تعاني من الرسوم الجمركية الأمريكية.
حيث هاجم إيلون ماسك كبير مستشاري الرئيس الأمريكي التجاريين بيتر نافارو علنًا، واصفًا إياه بـ«الأحمق»، وشارك مقطعًا شهيرًا للخبير ميلتون فريدمان عن فوائد التجارة الحرة، وكانت تلك رسالة واضحة، أن «ترامب، الذي وُعِد بحماية الصناعات، بات يضرّها بنفسه».
ولم يقتصر الغضب على قطاعات التكنولوجيا، فقد تبرعت شركات الطاقة الأمريكية، بما يقرب من 75 مليون دولار لدعم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في الانتخابات، على أمل إنهاء ما وصفه بـ«حرب بايدن على الطاقة».
لكنه، وبمجرد تسلمه السلطة، فرض رسومًا جمركية رفعت كُلفة المعدات، ما أدى إلى ركود في الأسعار وتباطؤ الاستثمار، وهكذا، بدأت تلك الشركات تُراجع خياراتها، بعدما شعرت أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي وعد بـ«الحفر دون توقف»، بات يحفر في الاتجاه الخطأ.
شعار «أمريكا أولًا»… خيانة اقتصادية مقنّعة
في العمق، تعكس سياسات ترامب هذه، خيانة اقتصادية مقنّعة، ليس فقط للرؤساء التنفيذيين الذين دعموه، بل لملايين العمال والناخبين الذين صدّقوا وعوده بتخفيض الأسعار.
وهؤلاء هم الأكثر تضررًا من فواتير الرسوم الجمركية الأمريكية التي يدفعونها يوميًا في المتاجر، ولأن ترامب عاد للرئاسة بأصغر فارق تصويت منذ الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، فإن خسارة أي شريحة من هؤلاء ستكون مُكلفة.
أما السياسة الخارجية لم تكن أفضل حالًا.. ففي حملته الانتخابية الأخيرة، وعد ترامب بوقف الحروب و”تحقيق السلام في الشرق الأوسط”، ما جذب أصواتًا عربية ومسلمة، في ولاية مثل ميشيجان.
لكن سرعان ما اكتشف هؤلاء الناخبون أنهم وقعوا في فخّ خطاب مزدوج، فبينما صوّتوا للسلام، عاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب ليمنح دعمًا غير مشروط لإسرائيل، ورفع عقوبات سلفه على المستوطنين، وطرح أفكارًا مثل «تحويل غزة إلى منتجع سياحي»، بل وبدأ في سحب تأشيرات الطلاب المؤيدين للفلسطينيين.
ردود الفعل.. من التأييد إلى إعادة التسمية
بالنسبة لردود الفعل، كانت خيبة الأمل واضحة، ففي ولاية ميشيجان، استقبلته فاي نمر، رئيسة غرفة التجارة الأمريكية للشرق الأوسط، بحفاوة، لكنها وصفت لاحقًا مواقفه بأنها «مقلقة للغاية».
أما مجموعة «العرب الأمريكيون من أجل ترامب»، فقد غيّرت اسمها إلى «العرب الأمريكيون من أجل السلام»، بعد أن أدان رئيسها بشارة بحبح تصريحات ترامب عن إخلاء غزة، بحسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية.
إيران.. الحقل الملغوم
أما خصومه فقد شعروا هؤلاء أيضًا بالخذلان.. فترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، عاد مؤخرًا ليغازل فكرة اتفاق جديد، مشابه لاتفاق الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، ليفجّر هذا التقلّب في الخطاب انقسامات داخل القاعدة الجمهورية نفسها، كما ترك الجميع في حالة ترقب بين سؤال، «أيّ ترامب سيظهر؟.. رجل الحرب، أم رجل الصفقة؟».
كل ما سبق لم يكن مفاجئًا، فالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يفتقر لقناعات ثابتة، كان يُجيد تقديم ما يريده كل جمهور لسماعه.
لكنه الآن أمام واقع لا يمكن خداعه/ فحتى أكثر الرؤساء انتهازيةً يحتاجون إلى اتخاذ قرارات، وهذه القرارات لها ثمن سياسي واقتصادي،، ومع مرور أكثر من 110 يوم على ولايته الثانية، تُظهر استطلاعات الرأي أن شعبيته في أدنى مستوياتها على الإطلاق، في وقت لا يستطيع فيه حزبه تحمل المزيد من الخسائر.