«تم نزع غطاء السرّية عن أخطر اختراق تنظيمي لـ الطاقة النووية في أمريكا».. بهذه العبارة يمكن تلخيص ما فعله الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بإزاحة عقود من الاستقلال التنظيمي بضغطة توقيع.
لم تعد لجنة التنظيم النووي في الولايات المتحدة حرة في قراراتها كما كانت، فالرئيس الأمريكي، أعاد رسم المشهد بقوانين جديدة تجعل من البيت الأبيض لاعبًا مباشرًا في ترخيص المفاعلات النووية، تحت شعار تسريع البناء و«إطلاق العنان للطاقة الأمريكية»، لكن السؤال، هل تسريع التراخيص يعني التخلي عن الحذر؟ وهل صارت المفاعلات النووية أداة سياسية تُصاغ في المكتب البيضاوي؟
بأربعة أوامر تنفيذية، أعاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب تشكيل مستقبل الطاقة النووية، وجعل من البيت الأبيض صاحب الكلمة العليا في ما كان يُفترض أن يكون قرارًا علميًا بحتًا، بين طموحات نووية عملاقة تُبنى على أرضية مهزوزة من الجدل.. «والمخاوف من أن تُصبح السرعة هي العنوان.. ولو على حساب الأمان».
ترامب يعيد تشكيل مستقبل الطاقة النووية في أمريكا
وقّع دونالد ترامب أربعة أوامر تنفيذية تمنح البيت الأبيض سلطة مباشرة على عملية ترخيص المفاعلات النووية، وهي صلاحيات كانت دومًا من اختصاص لجنة التنظيم النووي المستقلة، وفقًا لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية.
وبهذا القرار، يكسر ترامب تقليدًا عمره عقود، بحجة تسريع المشاريع النووية التي يرى أنها تأخرت كثيرًا بسبب «الإفراط في الحذر والتنظيم».
أوضح ترامب، خلال توقيع الأوامر في المكتب البيضاوي: “لن ننتظر 15 عام لخروج تصريح لجنة التنظيم النووي المستقلة ولن نعتمد على اليورانيوم من خارج البلاد”.
وضمن الأوامر، تُلزم لجنة التنظيم النووي بإنهاء أي ترخيص جديد في غضون 18 شهرًا فقط، وتعديل معايير الإشعاع التي يعتبرها البيت الأبيض صارمة بلا داعٍ.
ويأتي التوجه الجديد وسط سباق محموم على الطاقة النظيفة، مع دخول شركات التكنولوجيا العملاقة على الخط، سعيًا لتوفير طاقة هائلة لمراكز البيانات التي تُشغل تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويرى المسؤولون أن الخطة الجديدة قد تُمهد الطريق لبناء مفاعلات جديدة خلال ولاية ترامب الحالية.
الرهان الأكبر.. المفاعلات الصغيرة
أما الرهان الأكبر، يتمثل في المفاعلات النووية الصغيرة، والتي يُروج لها باعتبارها أكثر أمانًا ومرونة من المفاعلات التقليدية، لكن رغم هذه الوعود، المشروع يواجه عراقيل ضخمة، تتمثل في، ميزانيات متضخمة، ومشاكل في التصميم وسلاسل التوريد، وصعوبات في الترخيص لم يتم تجاوزها حتى الآن.
وكان أحدث مثال على هذه التحديات.. محطة “فوجتل” في ولاية جورجيا الأمريكية، حيث تأخر تشغيل المفاعلات النووية الجديدة لسبع سنوات كاملة، وتجاوزت التكلفة المتوقعة بأكثر من 17 مليار دولار ــ وبحسب صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية ــ فإن هذا النموذج وحده كافٍ لتذكير الجميع بأن التسريع بدون استعداد قد يُكلف مليارات أخرى.
مخاوف من تدخل البيت الأبيض في التفاصيل الفنية
رغم ترحيب بعض مسؤولي الصناعة، إلا أن هُناك قلقًا عميقًا داخل الأوساط العلمية والتنظيمية، فبعض الخبراء يرون أن تدخل البيت الأبيض قد يُهدد سلامة المفاعلات النووية، ويحوّل اللجنة التنظيمية إلى ذراع تنفيذية بدلًا من هيئة رقابية مستقلة.
ومن بين هذه الأصوات، جاء تحذير شديد من وزير الطاقة الأمريكي السابق، إرنست مونيز، الذي أكد أن إضعاف استقلال لجنة التنظيم النووي قد يُسرّع بناء مفاعلات غير آمنة، مما يُهدد بانتكاسة كبيرة لأي تقدم نووي مُستقبلي.
وكان التغيير لا يقتصر على تسريع الإجراءات فقط حول مسألة المفاعلات النووية، بل يشمل أيضًا تعديل هيكل اتخاذ القرار داخل اللجنة التنظيمية النووية، بحيث تمر القرارات النهائية عبر البيت الأبيض قبل صدورها، وهذه الصيغة أيضًا تثير جدلًا واسعًا حول حدود التدخل الرئاسي في شؤون فنية بالغة التعقيد.
تشمل الأوامر الرئاسية الأمريكية، تشجيع بناء مفاعلات نووية جديدة على أراضٍ اتحادية بهدف تشغيل مراكز بيانات ضخمة وحتى قواعد عسكرية، إلى جانب تطوير سلاسل التوريد المحلية للوقود النووي، لكن تلك الخطط الطموحة تصطدم بتحديات لوجستية وتقنية ضخمة.
الكونجرس سبق البيت الأبيض بـ«خطوة»
اللافت أن الكونجرس الأمريكي، نفسه كان قد أقر تشريعًا يهدف لتحديث الهيئة التنظيمية النووية وتسريع إجراءات الترخيص، ما يطرح تساؤلات حول دوافع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب للقفز إلى الأمام بأوامر تنفيذية قد تُربك عملية الإصلاح الجارية أصلًا.
وحذّرت مراكز أبحاث مثل “تحالف الابتكار النووي” من أن سياسات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خاصة مع تقليص أعداد الموظفين الفيدراليين، قد تُقوّض العملية برمّتها، أما الخطر الأكبر فيكمن، بحسب الخبراء، في التضحية بالدقة مقابل السرعة، مما قد يُعيد فتح ملف الحوادث النووية مجددًا.
وحتى مع سعي البيت الأبيض لإعادة النظر في معايير التعرض للإشعاع النووي، يُجمِع العلماء على أن هذه العملية تستغرق سنوات من الدراسات المُتعمقة، وتتطلب تعاونًا بين وكالات فدرالية مُتعددة مثل وكالة حماية البيئة.
وقال مسؤول سابق في اللجنة التنظيمية النووية، بول ديكمان: «إنه لا يمكن أن نغيّر قواعد الإشعاع النووي بقرار إداري… فلابد العلم أن يكون حاضر أولا».