يحي خليفه

مصر ليست سلسلة مفاتيح، فيستخدم مفتاحاً لإنشاء مشروعات استهلاكية وثانياً لافتتاح فروع محال تجارية، وثالثاً لإقامة معارض أثاث أو سجاد أو سيراميك، ورابعاً لتشغيل توكيلات أجنبية، وكلها أساليب مشهورة لجنى المال في أسواق غير منتجة أو بأسلوب اقتناص الريع، وتداول الأصول المعروضة بدلاً من الإنتاج. لكنك لا تجد في هذه السلسلة شيئاً يُذكر عن مشروعات وأعمال خيرية تهدف إلى تعليم الناس الصيد بدلاً من إعطائهم سمكة، فلم نسمع، وسط صخب الصراع السياسي واستغاثات خبراء الاقتصاد، عن رجال أعمال يتبنون مشروعات قومية توفر المزيد من فرص العمل وتدعم جهود التنمية، ولم نر من يقيمون مشروعات لتطوير قرى أو أحياء، أو توفير التعليم المهني والصناعي الذى نحتاجه بشدة هذه الأيام، ولم نقرأ عن مبادرات من أصحاب المال والأعمال لدعم المشروعات الصغيرة بتوفير التمويل اللازم وإقامة مؤسسات اجتماعية ومنح قروض دون فوائد للمساعدة في إقامة ورش ومحال تقلل من معدلات البطالة. لقد انشغلنا بالصراع عن البناء، وتورطنا في التناحر ونسينا مسؤوليتنا عن التنمية البشرية. والتنمية التي نعنيها لا تقوم على الصدقة التي ندسها في جيب فقير، أو التبرعات لمحتاج، أو المساعدة في تجهيز العرائس، وكل ذلك جهدٌ مشكور لكنها ليست التنمية التي نقصدها ونتطلع إليها. إنها أوسع نطاقاً من ذلك، وأعم فائدة، ثم إنها أبقى أثراً.
وربما غفل أصحاب المال والأعمال عن حقيقة وجود شريحة في المجتمع ليست أصلاً بحاجة إلى كيس أرز أو سكر مما تقدمه الجمعيات الخيرية أو بعض الأحزاب في مواسم الانتخابات، بل هم بحاجة ماسة إلى مساكن تلائم دخلهم المحدود، وتعليم يمنحهم معرفة وأملاً في المستقبل، وفرصة عمل كريمة تساعد على التعفف عن مد أيديهم طلباً للمساعدة، وربما نسى هؤلاء أن المجتمع ليس بحاجة إلى بناء دور العبادة، وهو العمل الخيرى المحبب لدى كثيرين، بقدر حاجته إلى تنويع الأعمال الخيرية لتشمل إنشاء عيادات علاج الأمراض المستعصية، ومراكز غسيل الكلى، وعلاج مرضى الكبد، إضافة إلى لجان توفّر الأطراف الصناعية والمستلزمات السمعية والبصرية للمعوقين، عن المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال نتحدث.
في أواخر عهد مبارك، ومع انسحاب الدولة من قطاعات رئيسة تخدم المجتمع، شهدت مصر ما يوصف باقتصادات السمسرة والإحسان، التي تقضى بإفقار الشعب ثم التصدق عليه. هكذا تبنَّى النظام عدداً محدوداً من مليارديرات الربح السريع، لهم نصيب الأسد من الثروات، يتبرعون بين الفينة والأخرى في طقوس احتفالية وإعلانية أقرب إلى المظهرية، بالإعالة والإعانة، تخفيفاً للضغوط على الفقراء بدلاً من انتشالهم ، غير أن حبة الأسبيرين لا تشفى مرضى القلب.
ليس المرء بحاجة إلى أن يجهد عينيه وعقله؛ للوقوف على الفارق بين أثرياء اليوم والأمس الذى كان. فجولة صغيرة ربما فى أصغر قرية مصرية ستكشف عن وجود مسجد أو مدرسة، أو سبيل أو مصحة، بناها أو تكفل بها أحد أثرياء عهودٍ مضت. بل إن كثيراً من لمسات الجمال والذوق العمراني في القاهرة تنتمى إلى تلك العهود، وثروات رجالها، ممن أطلقوا مبادراتٍ حملت مصر من العجز إلى الإرادة، ومن التوقف إلى المسير، ومن الهروب إلى الإقدام، ومن الجمود إلى التغيير.
غير أن الجهود الفردية المبعثرة لعددٍ من رجال الأعمال لم تتحول إلى مؤسسات متكاملة ومستقلة تواجه الأزمات، مثلما يحدث فى المجتمعات الرأسمالية الحقيقية، التي تعتبر العمل المدني والاجتماعي جزءًا من واجب الأثرياء، وتنتظر منهم – على سبيل المثال لا الحصر لعب دور فعال في حماية البيئة والقضاء على التلوث، وتبنى أفكار الموهوبين ودعم الإبداع والابتكار والبحث العلمي، خاصة لدى الجيل الصاعد.
وفى تقديرنا أنه يجب على جميع الأثرياء -سواء كانوا من رجال الصناعة والتجار أو حتى لا عبى الكرة ونجوم الفن القيام بدور مؤثر في خدمة قريتهم أو مدينتهم أو حتى المحافظة التي ينتمون إليها، وذلك في إطار المسؤولية الاجتماعية التي تقع على عاتقهم. ولا بد أن يتم معظم هذه المساهمات من خلال الجمعيات الأهلية كما يحدث في أمريكا وأوروبا، لضمان الشفافية وحُسن الإدارة وتعميم الفائدة، في عام 1920، ظهر رجال أمثال طلعت حرب حاولوا تأسيس صناعة وطنية في مواجهة المستعمر البريطاني، فأقاموا بنك مصر. اليوم، نحتاج هذا الحس الوطني والحرص على رد الجميل للمجتمع والوطن ككل، من أولئك الذين علا صراخهم في أروقة السياسة وعلى شاشات التليفزيون، وخفت صوتهم في عالم العطاء الاجتماعي المطلوب