يحي خليفه
قبل عامين على اقتحام مبنى الكونجرس، حذر جيرولد بوست، المحلل النفسي لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية CIAسابقًا، من خطورة «نرجسية ترامب» وقدرته على استقطاب وتأجيج مشاعر مؤيديه، لكن أمريكا بكل مؤسساتها العريقة لم تأخذ نرجسية ساكن البيت الأبيض بجدية، ولم تأخذ تشخيص «بوست» بجدية، كما لم تأخذ من قبل تحذيرات هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بجدية أيضًا! فهل تحتاج أمريكا دائمًا إلى حدث جلل كى تفيق من غفوتها؟!
كان بوست قد وصف الرئيس دونالد ترامب بـقائد ذى كاريزما مدمرة يتمتع بصفات النرجسية النموذجية كهوس العظمة ونقص التعاطف مع الآخرين والحساسية المفرطة للانتقاد وعدم وجود ضوابط تجاه الضمير. وتوقع بوست، فى لقاء صحفى فى ديسمبر عام 2019، ألا يعترف ترامب بهزيمته مبكرًا إذا خسر في انتخابات 2020، بل بعدم شرعية الانتخابات، وأضاف أن: القائد صاحب الكاريزما الخطرة المدمرة يستقطب ويحدد عدوًا خارجيًا ويوحد أنصاره من خلال التلاعب بمشاعرهم المشتركة وتصويرهم كمَن وقعوا ضحية للغش والاحتيال، تحدى بوست، في كتاب كاريزما خطرة، الذى شاركته فى تأليفه ستيفانى دوسيت، تقاليد الطب النفسي بالحفاظ على سرية التحليلات النفسية للشخصيات العامة، ونشر تحليلًا لشخصية الرئيس ترامب بدون موافقته قائلًا إن التحذير كان واجبًا!!!
الغريب أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية كانت تستعين بتحليلات بوست النفسية لفهم ما يدور داخل عقول المتطرفين والانتحاريين والإرهابيين والسياسيين، وكانت CIA تقدم للرؤساء الأمريكيين تحليلات جيرالد بوست النفسية الخاصة بقادة الدول الأجنبية ليتعاملوا معهم بكفاءة واقتدار، وقد أكد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أنه لولا التحليل النفسي الذى قدمه له جيرولد بوست لشخصية الرئيس المصري الراحل السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحيم بيجين، لما نجحت مفاوضات كامب ديفيد، قائلًا: قضيت أسبوعين مع الرجلين ولن أغير كلمة من تقييم بوست النفسي لهما، فالسادات كان مهتمًا بجائزة نوبل للسلام ليتذكره العالم كقائد عظيم، بينما كان «بيجين» متأثرًا بتعاليم التوراة ومتابعًا حذرًا لتفاصيل الصفقة.
المحلل النفسي «بوست»، الذي رحل عن عالمنا في نوفمبر الماضي عن 86 عامًا، هو الذى أسس مركز دراسات وتحليل «الشخصية والسلوك السياسي» في CIA، وقضى معظم سنوات عمله في التحليل النفسي للشخصيات العامة وقادة التنظيمات المتطرفة وأيضًا رؤساء وقادة الدول لأهداف سياسية واستخباراتية، وقد لاحظ الرجل من خبرته انتشار النرجسية الخبيثة بين زعماء بعض الدول فى الآونة الأخيرة! ويقول علماء النفس إن الشخصية النرجسية لديها نسبة إنكار عالية مثل معظم المرضى النفسيين، وتتغذى على مشاعر المحيطين بها كالخوف من رد الفعل أو التملق أو المجاملة أو الإذعان لمطالبها أو التفخيم فى آرائها ومواقفها أو الموافقة الدائمة على طلباتها والتشجيع عليها، إلخ، وللنرجسية درجات، والنرجسيون يستخدمون ذكاءهم لتغذية الأنا الأعلى وتحقيق طموحاتهم!
لكن الخطورة تكمن في أن الشخصيات الكاريزمية منها قادرة على استغلال وتأجيج مشاعر الجماهير الغاضبة من خلال معلومات مغلوطة وكاذبة والزج بالمشاعر الوطنية المُبالَغ فيها مع بعض نظريات المؤامرة، ما يدفع الجماهير إلى التصرف بلا وعى، فتسود الفوضى ويصبح الدمار هو النتيجة الحتمية، كما يقول المفكر الفرنسي غوستاف لوبون، فى كتابه المثير للجدل عن «سيكولوجية الجماهير»، الذى وصف فيه سلوك الجماهير بأنه دائمًا غير عقلاني وهدّام، وأن توجيه هذه الجماهير الصاخبة الغاضبة أمر خطير على المجتمع، وفضّل أن يكون القرار في أيدى العقلاء والنبلاء، وهو رأى لا تتفق معه الديمقراطيات..!
إن مواجهة الغوغاء لشعور مخيف ومرعب تعجز الكلمات عن وصفه ولا يفهمه إلا مَن ذاق مرارته! أحداث الكونجرس ليست جرس إنذار للديمقراطيات وحسب لكنها أيضًا رسالة إلى أصحاب نظرية المؤامرة في العالم بأن ليس كل ما يأتي من أمريكا مخططًا له أو مُعَدًّا بشكل مسبق! ربما تتغير قوانين أو يعدل الدستور، وقد يصبح تجاوز اختبار نفسى بنجاح شرطًا للترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة