في أروقة السياسة الفرنسية، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة ربما يكون بإيقاع أسرع مما يتوقعه البعض، فرئيس الوزراء الفرنسي الجديد، فرانسوا بايرو يقف على عتبة قرار قد يحدد مصير الحكومة الفرنسية بالكامل، وهو السير على خطى سلفه ميشيل بارنييه، الذي أطاحت به موجة من الغضب البرلماني بسبب سياساته الاقتصادية التقشفية.
إن اختيار بايرو، لاستخدام مخطط بارنييه كقاعدة لميزانيته الجديدة يُثير جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية بفرنسا، فبينما يرى مؤيدوه أن هذا النهج يحقق استمرارية ضرورية للإصلاحات المالية، يحذر معارضوه من أن إحياء سياسات خفض الإنفاق وزيادة الضرائب قد يشعل اضطرابات شعبية ويؤدي إلى مواجهة سياسية لا تقل ضراوة عن تلك التي أطاحت بالحكومة الفرنسية السابقة، ليبرز السؤال، هل تُعيد فرنسا كتابة سيناريو سياسي مألوف أم تتجنب الوقوع في الفخ ذاته؟
التحدي الذي يواجه بايرو لا يتعلق فقط بالأرقام المجردة، بل بكيفية موازنة الإصلاحات الاقتصادية مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، ومع استمرار الضغوط من الاتحاد الأوروبي لتقليص العجز المالي، يجد رئيس الوزراء الفرنسي نفسه بين «مطرقة الالتزام المالي وسندان الغضب الشعبي»، وهو ما يجعل المرحلة المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحكومة الفرنسية على إدارة التوازن الدقيق بين السياسة والاقتصاد.
فهل سيكون بايرو قادرًا على تعديل المسار قبل أن تلتهمه نفس العاصفة التي أطاحت بسلفه؟ أم أن فرنسا على وشك أن تشهد فصلًا جديدًا من دراما حكومية قد تفضي إلى تغييرات جذرية في المشهد السياسي بفرنسا؟
على الرغم من الخلافات الداخلية، أفاد عدد من المسؤولين في وزارة المالية الفرنسية، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، أن الحكومة الفرنسية تنظر إلى الخطوة الحالية على أنها مجرد إجراء لتوفير الوقت، وليس دعمًا لميزانية بارنييه، ويعتقد هؤلاء المسؤولون أن البدء من جديد كان سيؤدي إلى تأخيرات قانونية كبيرة في تبني الميزانية الجديدة، وفقًا لصحيفة «بوليتيكو» الأمريكية.
◄التحديات القانونية أمام الحكومة الفرنسية الجديدة
إذا بدأ رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو من الصفر، فإن العملية القانونية الشكلية المطلوبة ستكون معقدة، ما يعنى تأخيرًا كبيرًا في إقرار الميزانية التي يُرجح أن يحاول بايرو تمريرها بحلول منتصف فبراير المقبل، بينما تواجه حكومة فرنسا تحديًا كبيرًا لتحقيق التوافق حول الميزانية في وقت ضيق جدًا، خاصة مع ضغوط المعارضة.
فبعد انتهاء الحكومة الفرنسية بقيادة بارنييه بسبب خطط تقليص «الديون الضخمة» عبر خفض الإنفاق وزيادة الضرائب، وجدت الحكومة نفسها في موقف صعب، ولأول مرة في تاريخها الحديث، دخلت فرنسا العام الجديد 2025 دون ميزانية دائمة، ما خلق «فراغًا ماليًا مؤثرًا في اقتصاد البلاد»، رغم وجود حلول مؤقتة.
◄عواقب الميزانية المؤقتة على الأسر الفرنسية
بينما اعتمد المشرعون في الحكومة الفرنسية ميزانية مؤقتة لتفادي إغلاق حكومي، فإنها تفتقر إلى بعض التعديلات الحيوية، مثل تلك المتعلقة بالتضخم، هذا يعني أن العديد من الأسر قد تجد نفسها تدفع ضرائب أعلى، وهو ما يعزز القلق العام بشأن تداعيات الميزانية المؤقتة في المستقبل القريب.
في حين أعرب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون في خطابه بمناسبة العام الجديد 2025، عن أمله في أن يتمكن المجلس التشريعي الفرنسي المنقسم من الوصول إلى توافق بشأن مسائل أساسية لإقرار الميزانية، لكنه أقر بأن الدعوة إلى انتخابات مبكرة العام الماضي زادت من حالة عدم الاستقرار السياسي بدلاً من تهدئة الأوضاع.
ورغم ذلك، يواجه فرانسوا بايرو تحديات كبيرة في تأمين دعم البرلمان، حيث يفتقر إلى الأغلبية اللازمة لإقرار ميزانيته، وعلى غِرار ذلك، قد تجد الحكومة الفرنسية نفسها مجبرة على إبرام تسويات مع الأحزاب المعارضة للبقاء في السلطة، وهو ما قد يشكل تهديدًا استراتيجيًا إذا لم تتم المفاوضات بشكل جيد، بحسب الصحيفة الأمريكية ذاتها.
◄ما هي خطة الحكومة الفرنسية لتجنب الإطاحة بها؟
في محاولة لتجنب سيناريوهات سلبية، قررت حكومة فرنسا، استكشاف سبل التفاوض مع الأحزاب المعارضة، حيث يسعى كلا من المدير العام لصندوق الودائع والأمانات الفرنسي إريك لومبارد وزير الاقتصاد، ووزير المالية الفرنسي، إميلي دي مونتشالين، لضمان بعض التنازلات، التي قد تساعد الحكومة على تجنب تصويت بحجب الثقة، ومن ثم التوصل إلى توافق سياسي حول الميزانية الجديدة قبل الخطاب الأول لبايرو في البرلمان.
ومع ذلك، إذا جددت الحكومة الفرنسية ميزانية بارنييه، فإن فرص التعديل على التشريع ستكون محدودة، ما يعني أن المفاوضات ستكون ضيقة المجال، وأشار رئيس لجنة المالية في البرلمان الفرنسي، إلى أنه يمكن تعديل الميزانية الفرنسية، ولكن صعوبة التغيير العميق قد تجعل من الصعب تجنب الخلافات التي قد تؤدي إلى تصويت بحجب الثقة.
ومن التحديات التي تواجه الحكومة الفرنسية أيضًا فرض ضريبة الأرباح غير المتوقعة، والتي كان بارنييه قد خطط لها، ونظريًا، سيكون من الضروري سَن قانون خاص لفرض هذه الضريبة في 2025 على الإيرادات المتولدة في 2024، وهو ما يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة الحالية بفرنسا على تطبيق هذه الضريبة دون تعقيدات قانونية كبيرة.
ومع تصاعد التوترات الاجتماعية والإضرابات المستمرة، يُخشى أن تؤدي الميزانية «المستنسخة» إلى إشعال فتيل احتجاجات جديدة، تُعيد إلى الأذهان مشاهد السترات الصفراء التي شلّت البلاد في السنوات الأخيرة، فهل ينجح فرانسوا بايرو في كسر هذه الحلقة السياسية المفرغة؟ أم أن فرنسا تتجه نحو أزمة سياسية أخرى تُطيح برئيس وزراء جديد؟