كتب حاتم الورداني علام
ظلت أسرار الحجرة النبوية الشريفة دفينة الكتب القديمة النادرة الوجود عبر عصور قد خلت.
إلى أن تحدى هذا التعتيم الغريب على أسرار تلك الأنوار الخفية المخفية الكاتب الإعلامي السعودي عمر الضواحي الذي أجرى تحقيقاً إعلامياً أوصله البحث فيه إلى أشخاص أصغرهم في الستينان و في وقت إقترب موعد وداعهم فيه للدنيا
كان معظم هؤلاء يتواجدون بمصنع كسوة الكعبة الشريفة
و لعله من الغريب أن يدرك الإنسان مدى علاقة كسوة الكعبة و مصنعها بالحجرة النبوية !!
ليس الأمر بعيداً. لأن المصنع الذي عرف عنه نسج ثوب الكعبة هو نفسه يصنع ثوباً للحجرة النبوية الشريفة بنفس طريقة نسج ثوب الكعبة مع اختلاف الألوان.
يقول الإعلامي عمر الضواحي معبراً عن الأجواء التي طبعت حواره مع هؤلاء النفر القلة الذين حظوا بدخول الحجر الشريفة : “سجلت معهم أحاديث إختلطت بالدموع و الخشوع ، خانهم التعبير مرات و خنقتهم العبرات في أخرى ، و هم يتحدثون عن تجربتهم الفريدة ، كانت أطرافهم ترتعش من مجرد الذكرى كأنها حدثت بالأمس ، و ليس قبل ربع قرن من الزمان”.
و من بين أهم هؤلاء الأشخاص الشيخ أحمد ساحرتي رئيس قسم التطريز بمصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة على عهد الملك فيصل.
يقول الشيخ ساحرتي لعمر الضواحي حاكياً عن هذه التجربة : “كيف أستطيع أن أحدثك عن مشاعري لحظة دخولي الى الحجرة النبوية.. لايمكنني ذلك ، إعذرني ..
هذا حديث فوق قدرتي على الكلام ، و لم أظن في يوم من الأيام أن أسئل عن هذه التجربة .. و أؤكد لك أنني لن أستطيع خوضها ثانية.
اقترب مني أكثر و أضاف : أنظر الى عدسات نظارتي ــ و أشار الى غلظتها ــ و دقق النظر في شيبتي و ثقل السنين التي أحملها ، عمري لا أحصيه، لكنني سمعتهم يقولون إنني من مواليد 1333هـ ، و مع كل هذه السنين لم أعرف لي هواية غير حب العطور و الروائح الجميلة ، و صرفت ردحاً من أيامي التي عشتها طولاً و عرضاً لأشبع هذا النهم الذي لايزال يرافقني للآن ، سافرت كثيراً وتعرفت على الكثير لكنني أستطيع أن أقول بثقة أن لي تركيبات عطرية خاصة ، لا تكون عند غيري و لا يقدر عليها أحد.
أقول ذلك لأنني عرفت عجزي و قلة معرفتي في تلك الليلة المباركة ، عندما فتحت لنا الأبواب ، و دخلنا الحجرة النبوية ، لقد أستنشقت عطراً و روائح ما عرفتها من قبل ، و لم أعرفها من بعد.
لم أعرف سر تركيبتها أبداً ، كان عطراً فوق العطر ، و شذاً فوق الشذا ، و شيئا آخر لا قِبَل لنا به نحن أهل الصنعة و المعرفة ..!!
و يحكي عمر الضواحي قائلاً : عندما سألته أن يصف لي الحجرة النبوية ، سرت في جسده رعدة خفيفة أصابته ، و قال بصوت خافت : أعتقد أن إرتفاع الحجرة أحد عشر متراً ، و أسفل القبة الخضراء ، قبة أخرى مكتوب عليها : قبر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و قبر أبوبكر الصديق و قبر عمر بن الخطاب (رضوان الله عليهما) و رأيت أيضاً أن هناك قبراً آخر لكنه خاو !! و بجانب القبور الأربعة ، حجرة السيدة فاطمة الزهراء ، و هو البيت الذي كانت تسكنه.
من رهبتنا لم نكن نعرف كيف نرفع المقاسات الخاصة بالقبة ، كانت أصابعنا ترتجف ، و أنفاسنا تتسارع. و بقينا 14 ليلة كاملة نعمل فيها من بعد صلاة العشاء الى وقت أذان الفجر الأول ، لننجز مهمتنا.
ظللنا نرفع المقاسات ، و نحل أربطة السترة القديمة ، نكنس و ننظف ما علق بالمكان الطاهر من غبار و ريش حمام ، هذا الموقف يعود إلى عام 1971 ميلادية ، و كانت الكسوة التي قمنا بتغييرها قديمة ، كان عمرها 75عاما حسب التاريخ المنسوج عليها ، و لم تستبدل طوال هذا الوقت.
و يمضي الشيخ الساحرتي في تفاصيل تلك الزيارة : كنت أول من دخل مع السيد حبيب من أعيان المدينة المنورة ، و أسعد شيرة مدير الأوقاف في المدينة وقتها و حبيب مغربي من إدارة المصنع ، و عبدالكريم فلمبان و ناصر قاري ، و عبدالرحيم بخاري و آخرين ، كنا 13رجلاً ، لا أذكر معظمهم ، فقد ذهبوا الى رحمة الله.
كان يرافقنا كبير الأغوات و عدد من خدام الحجرة النبوية .. الهمس حديثنا ، هذا إذا لم تكن الإشارة تغني عن الكلام. كنت و مازلت أعاني من ضعف شديد في الإبصار ، و هذه النظارة لم تفارق عيني منذ تلك الأيام ، لكنني كنت في الحجرة شخصاً آخر .. كنت أشعر بذلك ، و ألمس الفرق.
أشياء غريبة حدثت لي ..
و يقسم الشيخ الساحرتي قائلاً :
“كنت أدخل الخيط في ثقب الإبرة من غير نظارة ، رغم الضوء الخافت الذي كنا نعمل فيه. كيف تفسر ذلك ، و كيف تفسر أنني لم أشعر بحساسية في صدري كنت أعاني منها و مازلت ، فأنا أسعل بشدة مع أدنى غبار ، لكنني يومها لم أتأثر بغبار الحجرة نهائياً ، و لا بالأتربة المتطايرة ، كأن التراب لم يعد تراباً ، و كأن الغبار أصبح دواءً لعلتي ، كنت أشعر طوال تلك الليالي أنني شاب ، و أن فتوة الصبا قد رُدّت اليّ .
لقد حدث معي شيء غريب آخر لم أفهم سره حتى اليوم ، فبعد تجديد كسوة الحجرة يومها ، كان علينا أن نخرج الستارة القديمة ، حمل من حمل الستارة ، و بقي حزامها المطرز بطول 36متراً ، قلت لهم لفوه ثم أتركوه ، تقدمت إليه ، و حملته على ضعفي فوق كتفي هذا ، و خرجت به من الحجرة النبوية ، لم أشعر بثقله أبداً ، لكنهم بعد ذلك جاءوا برجال خمسة ليحملوه فلم يستطيعوا ، و انخرط الشيخ في بكاء صامت ، و أكمل بتأوه: سأل بعضهم عن الذي حمله و جاء به الى هنا ، قلت مجيبا : أنا ، لم يصدقوا .. قلت لهم اسألوا عبدالرحيم بخاري خطاط الكسوة الشهير . منقول من الصفحة الرسمية لفضيلة العلامة المحدث محمد إبراهيم عبد الباعث رضي الله عن حضرته و أرضاه
و صل اللهم و سلم و زد و أنعم و بارك على الحبيب المصطفى و آله و صحبه أجمعين