افتتحت ظهر الإثنين أولى جلسات محاكمة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، التي ستستمر حتى شهر أبريل/نيسان المقبل، بتهمة تلقي تمويل مالي غير شرعي لحملته الانتخابية الرئاسية عام 2007 من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. ويتهم ساركوزي بعدد من الاتهامات الخطيرة منها “تمويل الحملة الانتخابية من مصادر غير قانونية والتآمر بهدف ارتكاب جريمة”، وهي تهم قد تزج به في السجن لعشر سنوات في حال إدانته. ينفي الرئيس السابق هذه التهم جملة وتفصيلا، لكن تاريخ العلاقات التي جمعته بالزعيم الليبي تطرح الكثير من الأسئلة بهذا الخصوص.
عاد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الإثنين مجددا إلى دائرة الضوء بعد شهر واحد من صدور حكم نهائي بإلزامه بارتداء سوار إلكتروني لمدة عام ووضعه تحت المراقبة عوضا عن الزج به في السجن ومنعه لثلاث سنوات من تولي أو الترشح لمنصب عام، وذلك إثر إدانته بالفساد واستغلال النفوذ في قضية التنصت. هذه المرة دخل ساركوزي قاعة المحكمة ماثلا في قضية قديمة تتعلق بتمويل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي حملته الانتخابية الرئاسية الناجحة عام 2007 مقابل “اتفاق” يقضي بتلميع صورة الدكتاتور الليبي في الغرب.
آخر تطورات جلسة محاكمة ساركوزي في قضية التمويل الليبي
ساركوزي لم يمثل وحده في هذه القضية، التي من المنتظر أن تستمر حتى شهر نيسان/أبريل المقبل، بل برفقة عدد من وزرائه السابقين والمقربين إليه، مثل كلود غيان وبريس أورتيفو وإريك فورت. وتضم القضية 20 فردا من المتورطين المدنيين. وعلى الرغم من نفي ساركوزي للاتهامات التي تطاله والتي نشرها مكتب المدعي العام الفرنسي للقضايا المالية والمتمثلة في “التستر على اختلاس أموال عامة والفساد وتمويل الحملة الانتخابية من مصادر غير قانونية والتآمر الجنائي بهدف ارتكاب جريمة”، فقد وجد نفسه أمام هيئة المحكمة بعد أن قرر قاضيان فرنسيان في آب/أغسطس 2023 وبعد عشر سنوات من التحقيق أنّ التهم كافية لتقديم هؤلاء الأشخاص إلى العدالة.
لا تقتصر المحاكمة على الدائرة المقربة لنيكولا ساركوزي من الوزراء السابقين وإنما تضم أيضا رجلين يملكان خبرة كبيرة في المفاوضات الدولية هما رجل الأعمال الفرنسي الجزائري ألكسندر جوهري والفرنسي اللبناني زياد تقي الدين. وقد فر الأخير إلى لبنان بعد انتهاء التحقيق معه وهو يعد مصدرا مهما للغاية للمعلومات المتعلقة بهذه القضية، فقد وجد المحققون في حساباته ثلاثة تحويلات مالية بقيمة 6 ملايين يورو من السلطات الليبية، كما أنه اعترف بتسليم “حقائب” مليئة بالأموال إلى كلود غيان مدير حملة ساركوزي الانتخابية.
الرئيس الفرنسي السابق لا يتوقف عن وصف هذه التهم الموجهة إليه في هذه القضية “بالملفقة” و”الكاذبة” ولا تثنيه الوقائع عن نفي تلقيه أية أموال أو دعم من النظام الليبي. فيما أكد محاميه، كريستوف أنجرا، أنه “بعد 10 سنوات من التحقيق وتخصيص موارد غير مسبوقة وتسجيلات صوتية وسفر للقضاة إلى الخارج في شتى أنحاء العالم، من الواضح أنه لا يوجد أي أثر لتمويل أو تحويل أو مدفوعات أو حتى تقديرات لمبلغ التمويل المزعوم”، وأن ساركوزي “ينتظر بفارغ الصبر جلسات الاستماع التي تستمر أربعة أشهر… ليقاوم الإطار المفتعل الذي رسمه الادعاء”.
بينما يقول المحققون إن ساركوزي أبرم اتفاقا غير قانوني مع الحكومة الليبية. كما تدور المحاكمة حول مسألة غامضة يُزعم انخراط جواسيس ليبيين وإرهابي مدان وتجار أسلحة فيها وأنها تضمنت اتهامات بأن القذافي أمد حملة ساركوزي بملايين اليوروهات التي جرى شحنها إلى باريس في حقائب.
وفي حال إدانته سيواجه نيكولا ساركوزي عقوبة السجن عشر سنوات ودفع غرامة مقدارها 375 ألف يورو، فضلا عن الحرمان من الحقوق المدنية (وبالتالي عدم الأهلية) لمدة خمس سنوات.
تاريخ العلاقات الليبية الفرنسية الحديث
إن وصول ساركوزي إلى هذه اللحظة المفصلية له تاريخ طويل من العلاقات بين باريس والزعيم الليبي السابق معمر القذافي يعود إلى عام 2001 أي حتى قبل وصوله لسدة الحكم في قصر الإليزيه عام 2007، وذلك كما يشير الدبلوماسي الفرنسي باتريك حاييم زاده الذي خدم في طرابلس بين عامي 2001 و2004، وألف كتاب “في قلب ليبيا القذافي”.
كان القذافي آنذاك يعد أحد أعداء الغرب الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد كان نظامه متهما بتفجير طائرة ركاب أمريكية تحطمت في لوكربي الإسكتلندية في كانون الأول/ديسمبر 1988، وأخرى فرنسية تحطمت في النيجر في أيلول/سبتمبر 1989، ما أسفر عن مقتل المئات ووضع ليبيا تحت الحصار الدولي.
لكن أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 مثلت منعطفا مهما في العلاقات بين الطرفين وبخاصة بعد أن أدانها القذافي علنا، وهو ما فتح الأبواب أمام تحسين العلاقة بينه وبين الدول الغربية وفي طليعتها فرنسا. فقد كانت “ليبيا بلدا بكرا. يحتاج إلى بناء كل شيء. وثروته النفطية بالغة الأهمية واحتياطاته من الذهب والفضة تسيل لعاب كل الحكومات الغربية”.
لم تنجر فرنسا في البداية إلى علاقات موثوقة مع النظام الليبي فقد بقيت بعض التحفظات قائمة من جانبها “على خلفية النزاعات المعلقة والعقوبات الأممية والأوروبية والوطنية المفروضة”، بحسب زاده الذي يشير الى أن باريس استكشفت “محاور تعاون” تقتصر على مجالات غير استراتيجية مثل الثقافة والسياحة.
بيد أنه منذ العام 2005 فتحت قناة اتصال مباشرة بين باريس وطرابلس ولا سيما وزارة الداخلية والمسؤولين الأمنيين الليبيين بعد انضمام ملحق أمني مرتبط بوزارة الداخلية خلال العام نفسه إلى السفارة الفرنسية في طرابلس. وكان نيكولا ساركوزي آنذاك وزيرا للداخلية في آخر حكومة لجاك شيراك. وفي صيف 2007، تمكن من تأمين الإفراج عن خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني أمضوا ثمانية أعوام من التوقيف والتعذيب، على خلفية اتهامهم بحقن مئات الأطفال الليبيين بفيروس السيدا (الإيدز) بشكل متعمد.
توثيق العلاقات بين القذافي وساركوزي
بدأ الأمر عبر لقاء في العاصمة الليبية طرابلس في العام 2005 خُصص رسميا لموضوع الهجرة غير النظامية، بين العقيد معمر القذافي ونيكولا ساركوزي الذي كان يستعد للترشح للانتخابات الرئاسية في العام 2007. وقتها، تم التوصل إلى “اتفاق”، بحسب الاتهام الذي استند إلى تصريحات سبعة من كبار الشخصيات الليبية السابقين بشأن رحلات سرية أجراها كلود غيان مدير حملة ساركوزي الرئاسية وبريس أورتيفو وهو مقرب من الرئيس السابق، وأيضا إلى ملاحظات لوزير النفط الليبي السابق شكري غانم الذي عُثر على جثته في نهر الدانوب في العام 2012.
وتمحور هذا الاتفاق في البداية على شكل “إعادة تأهيل” للقذافي على الساحة الدولية، ومع وصول ساركوزي إلى الإليزيه في 2007، اتخذت العلاقة منحى تصاعديا مع إقامة محاور جديدة للتعاون وإمكانات لإبرام عقود مهمة خصوصا في المجال العسكري”. إذ استقبله الرئيس الجديد بعد انتخابه بحفاوة بالغة في كانون الأول/ديسمبر عام 2007، في إطار زيارة مثيرة للجدل لباريس، كانت الأولى له منذ ثلاثة عقود. كما انعكس في عقود كبرى ومساعدة قضائية لعبد الله السنوسي مدير الاستخبارات الليبية المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة غيابيا في فرنسا لدوره في الهجوم على طائرة فرنسية عام 1989 أودى بحياة 170 شخصا بمن فيهم 54 فرنسيا.
كان القذافي الذي يحكم ليبيا منذ العام 1969، “مهووسا” بأمر وحيد: اكتساب شرعية لدى الدول الغربية وتلميع صورته في الغرب. وكانت زيارته الرسمية لفرنسا حيث نصب خيمته في حديقة مقر الإقامة الرسمي مؤشرا على “إعادة تأهيل من الباب العريض”. وفي حين كان من المقرر أن تستمر الزيارة لثلاثة أيام فقط فإن القذافي مدد إقامته، واستضاف المثقفين والفنانين والسياسيين على التوالي. لكن الصناعيين الفرنسيين لم يجنوا ثمار زيارة الدولة هذه.
وكان من المتوقع أن تشكل زيارة الدولة هذه فرصة لتوقيع عقود بمليارات اليوروهات بين الجانبين. لكن ذلك لم يحصل، ما أثار توترا في العلاقة بين الطرفين. ولم تتوثق العلاقات بين الطرفين بالصورة التي كان يأمل بها ساركوزي، إذ إن ليبيا والمنطقة كانت تمر بمرحلة صعبة من الحراك الشعبي المطالب بالحرية، كما أن النظام الليبي نفسه بدأ يختبر في تلك الحقبة “شكلا من أشكال التدهور”، موضحا “بدأ الفساد يبلغ مستويات غير مسبوقة، والقذافي الذي كان يدعي أنه قادر على ضبطه، فقد السيطرة… حصل نوع من التآكل البطيء للوضع، مع ترك العديد من المقربين من القذافي السفينة، وقام بعضهم باللجوء إلى فرنسا”. في آذار/مارس 2011، ألقى سيف الاسلام نجل القذافي، قنبلة سياسية في اتجاه الرئيس الفرنسي بقوله “يتوجب على ساركوزي أن يعيد المال الذي قبله من ليبيا لتمويل حملته الانتخابية”.
الدور الفرنسي في الهجوم على ليبيا
وبحسب جلال حرشاوي، الباحث المساعد في المعهد البريطاني “رويال يونايتد سرفيسز”، فإن تمويل ليبيا لحملة ساركوزي “أمر معقول تماما… نظرا إلى تقليد شراء طغاة أفارقة لسياسيين في فرنسا”، في إشارة على وجه الخصوص إلى مساهمة الرئيس الغابوني السابق علي بونغو بتمويل حملات انتخابية لساسة أبرزهم شيراك عام 1981. ونفى الرئيس الفرنسي الراحل هذه التهم.
بيد أن ما أثار العديد من التساؤلات بشأن هذه المسألة كان الدور الفرنسي في استخدام القوة في ليبيا لحماية المدنيين في مواجهة القوات الموالية للقذافي بعد قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في آذار/مارس 2011. والذي أتاح في آب/أغسطس من العام ذاته، للمتمردين على القذافي من السيطرة على طرابلس. وبقي الزعيم هاربا ومتواريا حتى أواخر تشرين الأول/أكتوبر، حين عثر عليه وأردي على أيدي مسلحين قرب سرت. ومع ذلك يرى جلال حرشاوي أنه “من السخافة في مكان الاعتقاد أن الولايات المتحدة قادت التدخل العسكري ضد القذافي عام 2011 لمجرد إرضاء الرئيس ساركوزي الراغب في طمس قضية التمويل” الليبي لحملته.