بقلم / كرم من الله السيد
قد تكون الكلِمة شعرًا أو نثرًا، أو حتي من قلم مكسور لا يهم؛ ولكن صدقها وعظم مضامينها كفيلٌ بتغيير قناعات وقلب موازين وبناء واقع جديد. من ايماني بهذا المفهوم يأتي منطلقي لأكتب عن المواجهة الثانية لمجتمع دار السلام تحت عنوان ” العقاب المجتمعي ”
إن الحديث عن مجتمع مركز دار السلام يشبه السير في حقل ألغام وأنغام معاً، فتركيبته المجتمعية الفريدة تجعلك غير قادر علي تحديد اللغم من النغم، فاللغم مزروع في العادات والتقاليد والنغم أيضاً، فلدينا ما يطرب العالم من عادات وتقاليد عظيمة وله وقع النغم علي مسامعنا، وفي نفس العادة الواحدة لغم لو اقتربت منه لنفجر في حلمك للتغيير؟ وليس من المروءة الانقلاب علي كل العادات والتقاليد وإنما محاولة لتصحيح مسار ما عفي عليه الزمن منها ثم السعي لجعل الحديث منها عادة وتقليد.
من عادات المجتمع
من العادات التي توارثناها في مركز دار السلام هو الصمت المخزي عن ما يحدثه المخالف للمجرم، وعلي ما ينتهكه أمام أعيننا منه ! فتجد الأغلب يستقبل المجرم في حق مجتمعنا من نصب وسرقة ومخدرات وسلاح وفتنة كما يُستقبل النافع والمصلح لمجتمعه! فلا تستطيع التمييز بينهما إلا أن المجتمع يُوقر المجرم أكثر؟ هذا هو الخلل الذي أصبح مع الوقت عادة ودخل ضمن التقاليد! ومن هنا نستطيع التغيير في المجتمع و مع الوقت وبشكل فردي أو جماعي يمكن إنهاء هذه الظاهرة بطريقة واحدة وهي “العقاب المجتمعي”.
فعلي سبيل المثال فليس من المعقول أنا الجميع يعرف أن فلان ابن فلان يبيع مخدر الشابوا ويسرق ويصمت أو يتعامل معه كأنه عنصر فعال وخادم للمجتمع؟ ولا يدري بأن صمته جعله في مرمي أذيته فسيصل مع الوقت إلي بيتك سيصل.
والحل هو العقوبة المجتمعية التي تشير إلى ممارسة فرض الأعراف الاجتماعية عن طريق إلحاق الألم أو العار أو الأذى بمن ينتهكونها.يعني اكسفه.. احرجه.. ” ياخي متقعدش معاه” ياخي متسلمش عليه واخزيه ” ياخي متردش عليه السلام”هل يوجد طلب أقل من انك متقعدش في قعده هو قاعد فيها؟ تذكر أنه سبب في تدمير شباب بلدك وحولهم الي لصوص وقطاع طرق كما أنه أساء إلى سمعة بلد كاملة “.
تعال معي وانظر ماذا يقول العلم الوضعي في آليات العقاب المجتمعي ؟ من هذه الآليات البسيطة التي يمكن لأي مستوي أو فئة يقومون بتطبيقها حسبة لله وحفاظاً علي المجتمع برمته مثلا مثل التشهير ” قولوا للناس بأنه دي فاسد مجرم “والإقصاء ” جنبوه افراحكم واحزانكم “وحتي العقوبات القانونية.”بلغ فيه هدده “.
هل هناك فائدة من العقاب المجتمعي؟
بداية تعتمد فعالية العقاب المجتمعي على ثقافة المجتمع والبيئة التي تحدث فيها، ونحن لدينا القدرة علي احداث ذلك لأن المجرم في بلادنا مازال يحمل بقايا تربية ويضع للناس قيمة ومقدار في نفسه.اذا ربما ستأتي هذه التجربة مع الوقت وبشكل سريع.
وطرحت هذا الحل والعلاج السريع لأن العقاب المجتمعي يعمل بشكل سريع علي ردع السلوك، وإعادة تأهيل الجاني، والحفاظ على النظام الاجتماعي، دونما تكلفة دونما احتياجها إلى ثقافة محددة ولا منصب ولا حكومة ولا اجراءات ” علشان محدش يقول أنك يتطلب المستحيل” فقط لا تساند المخرب ببتسامك ، لا تشد ظهره بمعرفتك، لا تجعله ينسي بأنه مخطئ بحق المجتمع وقم دائماً بعزله واحتقاره مذكراً أياه بأنه علي خطأ.
من أين حصل العلم الحديث في تغيير المجتمعات علي هذا العقاب؟
حصل أهل العلم علي قوانين هذا العقاب وفتحوا له أقساماً وكليات وجامعات من قوله تعالي “بسم الله الرحمن الرحيم
“وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ” صدق الله العظيم
إلي هنا أنهيت مواجهتي الثانية بطرح المشكلة والحل الأبسط والأسرع والأسهل ودونما حتي وقوع خلاف بينك وبين المدمر لمجتمعك، وسأترك لمن يريد متابعة قصة وسبب نزول الآية وفي القصة ما عليك الا تغيير أسماء الصحابة وتبديلها بمن يخالف العادات والتقاليد وكذلك تغيير اسم المدينة المنورة إلى اسم قريتك في مركز دار السلام لتستوعب قيمة هذه الخطوة وتعلمها لجيل جديد ربما يكون أفضل حال منا.
تنبيه : في المواجهة الثالثة القادمة ستكون أقسي قليلاً.
/////////////////////////////////////////:///٢٢٢٢٢٢٢٢٢٢٢
قصة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك واستجابة الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم.
إنها قصة استجابة المسلمين لمقاطعة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، وهي مثل رائع للجانب العملي عند الصحابة الكرام، فقد كان هذا التخلف نزغة من نزغات الشيطان، فقد تخلف كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين، ونزل الوحي بعقابهم عن طريق المقاطعة، فكان عقاباً صعباً جداً، ولم يحصل في حياة الصحابة إلا في هذه المرة فقط.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا. فلا أحد يكلم هؤلاء الثلاثة، وهنا حدثت استجابة سريعة وكاملة وعجيبة جداً من أهل المدينة جميعاً، فلا جدال ولا نقاش ولا مبررات ولا تعليلات لا استثناءات ولا وساطة، بل ولا أحد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل من السابقين، هذا من المكافحين، من أهل العقبة، لم يقل أحد أي شيء من هذا الكلام، بل قالوا: سمعنا وأطعنا.
ولم يأت أيضاً أحد من عائلته أو أرسل له كرتاً وأعطاه إياه، ولا كان شيء من ذلك، فقطعت مصالح كثيرة، وكل واحد من هؤلاء له علاقات كثيرة، يتاجر مع هذا ويشتغل مع هذا، ومتزوج من بيت فلان، وقريب من هذا، لكن ليس ذلك مشكلة، فلتهدم كل المصالح ولا تهدم الطاعة، والمهم الطاعة لله عز وجل، والطاعة لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلم ينفع رحم، ولم تنفع صداقة، فنفذت المقاطعة بشكلها الواسع والعجيب في المدينة المنورة، وكل أهل المدينة قاطعوا الثلاثة، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: فاجتنبنا الناس. أي: تجنبوا حتى طريقهم، ثم قال: وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي بالتي أعرف. أي: هل هذه هي المدينة المنورة أم أنها ليست هي؟ وكأن الأرض التي ولد فيها وعاش فيها سنين وسنين لم يأت إليها قبل الآن، والشيء الغريب جداً أن كل الناس في المدينة قد سمعوا وأطاعوا، وهذا هو جيل الصحابة الكرام: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]، فليس لهم أي اختيار أبداً، لكن هل ظل ذلك يوماً أو يومين؟ لا، بل بقي كثيراً جداً، يقول كعب بن مالك: فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فترة طويلة جداً، وبالذات داخل مجتمع صغير مثل المدينة، وهو مجتمع اجتماعي، وليس كمجتمعاتنا في هذا الزمان، ففي أيامنا قد تجد أن بعض الجيران لا يعرف جاره، لكن في جيل الصحابة كان الجميع كأسرة واحدة، فالمقاطعة في هذه البيئة كانت صعبة جداً، فتفاقم الأمر مع كعب بن مالك رضي الله عنه الله عنه وأرضاه، يقول: حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه. أي: أنه ذهب إلى أقرب شخص وأحب شخص إليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مطمئن إلى أنه لن يقاطعه، قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! ورد السلام فرض، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ألغى هذا الأمر في هذه الحالة الاستثنائية فقط، فمنع الناس من الكلام حتى السلام، يقول: فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! وأبو قتادة لا يرد. يعني: هل تظنني قد غلطت لأجل أنني منافق، في داخلي كراهية لله وللرسول، أم أن هذه غلطة عابرة وأنا أحب الله ورسوله؟ فهو يسأله سؤالاً واضحاً جداً، فيريد منه رأيه: نعم أم لا.
يقول كعب: فسكت. أي: المرة الثانية، ثم قال: فعدت له فنشدته. أي: في المرة الثالثة، ثم قال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم. أي: لا أدري، وهي كلمة رهيبة جداً، أي: أنه لا يعلم إيمان كعب، فهو يشك في إيمانه وليس واثقاً منه، وكان هذا أشد على كعب من السكوت، فتمنى أنه لم يتكلم وبقي ساكتاً، لكن أراد أبو قتادة أن يبعد كعباً عنه تماماً؛ وذلك حتى لا يصر على كلامه، فأقفل عليه الباب وقال له: الله ورسوله أعلم.
وفي هذا استجابة شديدة لأوامر الله تعالى، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، استجابة إلى درجة عظيمة وعالية، مع أنه أحب الناس في المدينة إلى كعب بن مالك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: ففاضت عيناي. أي: أنه لم يقدر على التحمل، فقام والألم والحزن والاكتئاب يعتصر قلبه، وقد استمر هذا الوضع خمسين ليلة، ولاحظ كل هذه الاستجابة، وكل هذه الطاعة، وكل هذه المقاطعة إلا أنهم بعد خمسين ليلة من المقاطعة صدر الأمر الإلهي بالعفو عن الثلاثة الذين خلفوا، وهنا رفع الحظر عنهم، وسمح لأهل المدينة بالحديث معهم.