في قلب محافظة الدقهلية، تقع مدينة نبروه، التي لا يُذكر اسمها إلا مقرونًا بالفسيخ، حتى أصبحت عاصمة الفسيخ في مصر.
هنا يتوارث السكان فن التمليح جيلًا بعد جيل، مما جعل فسيخ نبروه الأشهر في الأسواق، ووجهة رئيسية لعشاق هذه الأكلة التراثية.
لكن ما الذي يجعل فسيخ نبروه مختلفًا؟ هل هو نوع السمك؟ أم طريقة التمليح؟ أم أن السر يكمن في ما يصفه صُنّاع المهنة بـ”النَفَس”؟!
من فيضان النيل إلى براميل التمليح
يعود تاريخ صناعة الفسيخ في مصر إلى آلاف السنين، لكن نبروه طوّرت المهنة وأتقنتها حتى باتت ماركة مسجلة.
محمد فؤاد، المعروف بـ”أبو أحمد”، أحد أقدم المُلّاحين في المدينة، يشرح لنا كيف نشأت هذه الحرفة.
يقول أبو أحمد: “قديمًا، كان النيل يجلب فيضانه حاملاً معه أسماك البوري النيلي، فلم يكن أمام الفلاحين سوى تمليحها للحفاظ عليها، خاصة في المواسم التي تغمر فيها المياه الأراضي الزراعية”.
ويضيف: “هناك فرق كبير بين البوري النيلي، الذي يعيش في المياه العذبة، والبوري البحري القادم من البحر. الفسيخ الأصلي يُصنع فقط من البوري النيلي، لأن لحمه أنعم ويحتوي على نسبة دهون عالية، مما يجعله أكثر دسامة بعد التمليح، بعكس البوري البحري الذي يفضَّل في الشوي والسنجاري لكنه لا يعطي نفس النكهة”.
“فن التمليح.. علم وصنعة”
عملية التمليح في نبروه ليست مجرد خطوات، بل هي سر متوارث.
يوضح أبو أحمد أن جودة الفسيخ تبدأ من الأدوات، حيث تُستخدم براميل خشبية طبيعية بدلًا من البلاستيك أو الصاج، لأن الخشب يمتص الرطوبة الزائدة ويساعد السمك على الاحتفاظ بنكهته المميزة.
أما خطوات التمليح فتتم وفق معايير دقيقة:
1. غسل السمك ثلاث مرات جيدًا.
2. رصّه داخل البرميل على طبقات من الملح والسمك.
3. إضافة طبقة ملح أخيرة على السطح.
4. وضع كيس بلاستيك لحجب الهواء، ثم تغطية البرميل بورق أصفر سميك وربطه بإحكام.
5. تركه لمدة 15 يومًا في الشتاء و10 أيام في الصيف، مع تشغيل المبردات للحفاظ على الجودة.
“السر مش في الوصفة.. السر في النَفَس!”
ورغم أن خطوات التمليح واحدة، إلا أن لكل صانع “بصمته الخاصة”، وهو ما يُعرف في عالم الفسيخ بـ”النَفَس”.
يقول أبو أحمد ضاحكًا: “زي ما مش كل ست تعمل تورتة هتطلع زي تورتة المحلات، نفس الشيء مع الفسيخ.. ممكن حد يجيب نفس السمك والملح ويعمل نفس الخطوات، لكن عمره ما هيطلع زي بتاع نبروه!”.
“فتح البرميل.. اللحظة الحاسمة”
تتفاوت الأسعار حسب الحجم:
الحبيبتين بـ 320 جنيه
الثلاث حبات بـ 280 جنيه
الأربع حبات بـ 200 جنيه
ويتم توزيع الفسيخ من نبروه إلى مختلف المحافظات، مثل القاهرة، الجيزة، بورسعيد، السويس، المحلة وطنطا، وحتى أن بعض مشاهير الفن وكرة القدم يطلبونه خصيصًا.
لكن اللحظة الحاسمة تظل عند فتح البرميل، حيث يخرج الفسيخ برائحته النفاذة، فيتهافت عليه الزبائن في انتظار التجربة السنوية. ويتنوع التمليح بين الخفيف، المتوسط، والشديد الملوحة، حسب الطلب.
لماذا نبروه؟
ربما يكون السر الحقيقي ليس فقط في “الطبخة”، ولا حتى في “النَفَس”، بل في المدينة نفسها، التي جعلت من الفسيخ تراثًا وفنًا، لا يُتقنه إلا من نشأ في شوارعها وتعلم الصنعة على يد الأجداد.
هنا في نبروه، الفسيخ ليس مجرد أكلة موسمية، بل حكاية ممتدة عبر الزمن.