بقلم د. علاء عبد الحميد
أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية بالأكاديمية العربية
بعد خسارة بوتين لأبرز حلفائه في الشرق الأوسط سواء نظام القذافي في ليبيا أو عبد الله صالح في اليمن أصبح بحاجة ملحة لموطيء قدم على شواطيء المتوسط لذلك تأتي الأهمية الاستراتجية لقاعدة طرطوس البحرية لبوتين فروسيا قوة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن، تتصرف وفق مصالحها الاقليمية والدولية،
هكذا تحركت بسورية وأوكرانيا بشكل خاص، وفي العلاقات الدولية بشكل عام، فعندما يرى بوتين ان هناك توجها دولياً ينبئ بتحولات إستراتيجية جوهرية في الشرق الأوسط، لاسيما بعد اعتراف الإدارة الأميركية بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، فإن من الطبيعي أن يحرك أدواته السياسية وأن تنخرط قواته العسكرية في هذه اللعبة الستراتيجية لترسيخ النفوذ الروسي بالشرق الأوسط من ناحية وللحفاظ على المكاسب التي حققتها موسكو من احتلال جزيرة القرم على البحر الأسود من ناحية أخرى.
اتّخذت روسيا قرارها بالانخراط في الأزمة السورية منذ ارهاصاتها الأولى، وفق قاعدة اغتنام الفرص ودرء المخاطر، حيث اعتبرتها موسكو فرصة ذهبية لإعادة تموضعها في الشرق الأوسط، في ظل حالة الارتباك و التردد التي اتسمت بها إدارة أوباما في البيت الأبيض، وفي السياق نفسه إعادة بلورة دورها بوصفها قوة عظمى انطلاقًا من البوابة الدمشقية.
بعد ضمها شبه جزيرة القرم، تعرضت روسيا من دول الغرب لانتقادات سياسية لاذعة ولعقوبات اقتصادية قاسية لن يكون من السهل التخلص منها إلا إذا تمكنت موسكو من الظهور بمظهر من يكافح الإرهاب، ووأد الجماعات الأصولية المنبثقة من الأزمة في سورية، هذا الإرهاب الذي فشل التحالف الدولي بزعامة أميركا في وضع حد له مما سيجعل روسيا محل احترام وتقدير في المجتمع الدولي، ويصرف اهتمامه عن أحداث أوكرانيا، ويدفع إلى تأييد الجهود الروسية مما يؤدي بها إلى طلب رفع العقوبات التي ستنهض بالاقتصاد الروسي المتعثر.
يترافق ذلك مع إدراك روسيا أن فقدانها لنفوذها التقليدي في سورية بعدما فقدت حضورها في ليبيا أمر سيقلص من حضورها الستراتيجي شرق أوسطيا وعربيا، ولا سيما أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والدول التي تدور في فلكهم هم الذين حاربوا موسكو من قبل في أفغانستان، وهم الذين يواجهون نظام الأسد، وأن ما حدث في طرابلس الليبية لن يتكرر بأي حال من الأحوال في دمشق السورية، وهذا ما دلل عليه من موقفها في مجلس الأمن، واستخدامها حق الفيتو ضد أي قرار يدين نظام الأسد.
لقد كانت لسورية ولا تزال أهمية ستراتيجية لا يمكن التفريط فيها بالنسبة إلى روسيا، وبناءً عليه هددت روسيا مرارًا أي دولة يمكن أن تستبيح الأراضي السورية بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي.
إن خوف موسكو أن يسهم سقوط نظام بشار الأسد في تهديد النفوذ الستراتيجي الروسي في الشرق الأوسط أو فقدان قاعدتها العسكرية الوحيدة على البحر المتوسط هو الحافز الأكبر على انخراطها في الصراع السوري، فلروسيا نقطة ضعف منذ بدايتها كقوة عظمى في القرن 18 وهي عدم قدرتها على الوصول إلى المياه الدافئة،
وفي السياق نفسه قامت روسيا بتأجير قاعدة طرطوس البحرية في سبعينيات القرن الماضي، ويلاحظ أن روسيا كان لديها العديد من القواعد البحرية في الشرق الأوسط لاسيما مصر وأثيوبيا وفيتنام، غير أنه لم يبقَ منها جميعًا سوى ميناء طرطوس الأمر الذي يضفى عليه أهمية ستراتيجية بالنسبة للسفن الروسية الموجودة في البحر المتوسط، كما أن قاعدة طرطوس البحرية تستخدم لعدة أغراض مثل مكافحة القرصنة البحرية في هذه المناطق وشحن الأسلحة والذخائر الروسية للقوات السورية المقاتلة، إضافة إلى ذلك فإن سقوط الأسد سيؤثر سلبًا على هيبتها ونفوذها الدولي ناهيك عن تزايد الانكشاف السياسي لإيران، إضافة إلى قلق روسيا من تزايد قدرة الولايات المتحدة الأميركية على اتباع سياسة ستراتيجية لمحاصرتها في أوروبا الشرقية وبحر قزوين.
من جهة أخرى، فإن روسيا خشيت أن يسهم إضعاف المحور السوري–الإيراني الذي يشكل جزءًا أساسيا في ستراتيجية روسيا لمواجهة المد الأميركي ألأوروبي، والدور التركي الصاعد في الشرق الأوسط وما يترتب عليه من تعرض روسيا لعزلة ديبلوماسية وخسارة نفوذها تدريجيا في الشرق الأوسط، إضافة إلى تخوف روسيا من أن تكون الدول الأوروبية قادرة على تجنب استيراد الغاز الروسي والحصول عليه من بلدان أخرى في شمال أفريقيا وآسيا لا سيما الغاز القطري، مما يعرض روسيا لخسائر اقتصادية كبيرة وعجز في الميزان التجاري، فينعكس سلبًا على دورها السياسي، وهذا ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 17 مايو 2013، فرأى أن سورية تعد من أهم دول الشرق الأوسط وأن زعزعة الاستقرار فيه سيكون له عواقب وخيمة على المنطقة برمتها.
التدخل العسكري الروسي في سورية
• ورثت روسيا عن الاتحاد السوفياتي وجودًا عسكريا في سورية، تميز بوجود قاعدة بحرية في طرطوس على البحر المتوسط لا يمكن لروسيا التخلي عنها أو تقليص وجودها فيها، وإلا فقدت عاملًا أساسيًّا يضعُها في مصاف الدول غير المؤثرة في الساحة الدولية، وبخاصة أن المرافئ الروسية تبقى مياهها غير صالحة للملاحة معظم أيام أشهر السنة، باستثناء ميناء سيباستوبول في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، وهو مقر أسطول البحر الأسود وهذا ما شكل سببًا موجبًا للكرملين لاحتلال وضم شبه جزيرة القرم، إلا أنّ هذا الإجراء يبقى ذا جدوى محدودة من دون وجود قاعدة بحرية في المياه الدافئة على المتوسط تؤمن الأعمال اللوجستية للصراع العسكري لاستدامة المهام القتالية.
• وفي السياق نفسه العمل على إنشاء قاعدة جوية في مدينة اللاذقية القريبة من أكبر قاعدة عسكرية بريطانية في المتوسط بقبرص، إضافة إلى أن هذه القواعد الروسية ستكون مجاورة لحدود حلف شمال الأطلسي من جهة الجنوب مما يعني تغييرًا استراتيجيًّا في توازنات الجغرافيا السياسية بالمنطقة.
وختاماً، استفادت موسكو من توغلها في كل مفاصل الأزمة السورية وأثبتت روسيا بقيادة القيصر بوتين أنها رقم صعب لا يمكن تجاوزه في المعادلة الدولية وبإمكانها التأثير الفعال في مجريات الأحداث والأزمات الدولية المختلفة، فقد أغلق الوجود العسكري الروسي الباب أمام استمرارية استئثار القوى الإقليمية بالصراعات السياسية وإدارتها، بعدما فتح الباب أمام عودة البعد الدولي لهذه الصراعات من الآن فصاعدًا،
ولم تعد الصراعات الداخلية في منطقة الشرق الأوسط حكرًا على القوى الإقليمية الفاعلة إيران وإسرائيل وتركيا أو الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها كونداليزا رايس في 2005. كما استفادت موسكو من الحفاظ على المصالح الروسية في الشرق الأوسط وبقاء أسطولها في المياه الدافئة أمورا عدة منها إجهاض دعوات تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط التي تخشى موسكو أن تطالها.