مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، يبرز سؤال جوهري، حول كيفية اختبار الكرملين لقوة وتماسك حلف الناتو الداعم لأوكرانيا مع تصاعد وتيرة الصراع الدائر بين موسكو وكييف؟
فمع احتدام المعارك بين روسيا وأوكرانيا، أصبحت خطوط المواجهة أكثر تشابكًا، فلم تعد الحرب الدائرة بينهما تدور فقط على الأرض أو في السماء، بل امتدت إلى ساحات جديدة كفضاء الإنترنت وحتى خارج الغلاف الجوي، لتتعدد أبعاد الحرب الروسية الأوكرانية بوسائل تتجاوز الحدود التقليدية أو المألوفة!.
وهذه الاستراتيجية المراوغة، التي تعتمد على التحركات الرمادية دون الوصول إلى حد الصدام المباشر، قد تضع حلف شمال الأطلسي «الناتو» أمام اختبار صعب، أسرع مما يتوقع قادته، فبين الهجمات السيبرانية التي تعطل بنى تحتية حيوية، والمناورات العسكرية على تخوم دول البلطيق، وتوسيع النفوذ البحري في القطب الشمالي، قد يجد الناتو نفسه في مواجهة تحديات غير تقليدية تهدد وحدة صفه.
والسؤال الآن.. هل سينجح الحلف في الردع الجماعي، أم أن موسكو تراهن على شقوق صغيرة قد تتسع تحت ضغط المواجهة المستترة؟
وفي الوقت الذي تتحمل فيه روسيا تكاليف باهظة، يبدو أن الكرملين، يستعيد الثقة ويعيد فرض سيطرته على الجبهة الأوكرانية بعض الشيء، ففي مؤتمر صحفي، حذر رئيس جهاز الأمن الداخلي البريطاني “MI5”، كين مكالوم، من أن أجهزة الأمن الروسية أصبحت أكثر قوة، وفقًا لمؤسسة «RUSI» لأبحاث الدفاع والأمن والشؤون الدولية البريطانية.
وبحسب المؤسسة البريطانية ذاتها، فقد لاحظ صحفيون استقصائيون على مقربة من الأراضي الروسية زيادة كبيرة في عمليات الاستطلاع حول كالينينجراد، الجيب الروسي المحاصر بين بولندا ودول البلطيق، في إشارة إلى تحركات غير اعتيادية في ظل استمرار الحرب الراهنة بين موسكو وكييف.
وفي ظل تصاعد التوترات، يتوقع مراقبون أن يصيغ الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الاستراتيجية الأمنية، حيث قد يدفع واشنطن للضغط على أوروبا لتحمل نصيب أكبر من الأعباء الدفاعية، لكن هذا التوجه قد يعزز قناعة ترامب بأن الحلفاء الأوروبيين استغلوا أمريكا لعقود دون استثمار كافٍ في أمنهم، ما يخلق فرصة للكرملين لاستغلال أي شرخ في الجبهة الغربية، بحسب المؤسسة البريطانية ذاتها.
ووسط هذه الأجواء، أطلق وزير الدفاع الدنماركي، تحذيرًا مفاده أن روسيا قد تختبر إحدى دول حلف شمال الأطلسي في غضون 3 إلى 5 سنوات، وبموجب المادة الخامسة من ميثاق «الناتو»، فإن أي هجوم على عضو واحد يعَد هجوما على الجميع، ما يعني أن أي اختبار لدولة واحدة هو اختبار فعلي لمنظومة الدفاع الجماعي بأكملها، وهنا يبرز السؤال الأهم… كيف يمكن أن يختبر الكرملين الدفاع الجماعي للناتو؟؟
وتوضح السطور التالية الإجابة عن هذا السؤال، مدعومة بمقابلات مع الفريق أول (المتقاعد) السير روب فراي ومارك جاليوتي – القضية من خلال منهجية 5WH، (من وماذا ومتى وأين ولماذا وكيف) كالتالي:
-ما هو شكل هذا الاختبار؟، وأين سيحدث؟، ولماذا يسعى الكرملين لهذا التحرك؟، ومن المسؤول عن تنفيذه؟، ومتى قد يحدث؟، وكيف يمكن أن تنفذ روسيا هذه العمليات؟
ووفقًا له، إجابة السؤال الأول هي، أن روسيا، حتى قبل استنزاف قواتها بالحرب الروسية الأوكرانية، لم تكن قادرة على مواجهة الناتو عسكريًا في معركة مباشرة، لذا، فإن أي اختبار روسي سيكون تحت مستوى الحرب المباشرة، من خلال عمليات غير تقليدية.
ويوضح السير روب فراي، قائلا: “إذا حدث هجوم علني، يجب أن يكون الرد حاسمًا، لأنه سيكون أول اختبار مباشر، لكن في معظم الأحيان، يتم اختبار الحدود بطرق خفية وغير مباشرة، ما يقلل من المخاطر على موسكو”.
أما فيما يتعلق بموقع هذه الاختبارات، فإن المقالة ستبحث في جميع ميادين الحرب، البرية، والجوية، والبحرية، والفضائية، والسيبرانية، لتحديد النقاط الساخنة المحتملة، مع تحليل الأسباب والدوافع وراء كل تحرك.
فالحرب البرية، برغم كونها أقدم أشكال الحرب، فإن الصراع البري شهد تغييرات جذرية خلال العقد الأخير، واليوم، يمكن تحقيق تأثيرات استراتيجية بموارد أقل، ما يمنح فرصا واسعة لتنفيذ عمليات منخفضة التكلفة وعالية التأثير.
أما بخصوص الموقع المحتمل، فإنه لطالما كانت القواعد العسكرية وخطوط الإمداد أهدافًا استراتيجية في أي صراع، إذ يُقال في الحروب: “الهواة يتحدثون عن التكتيكات، بينما يركز الخبراء على اللوجستيات، وهذا يجعل منشآت التخزين، ومستودعات الذخيرة، وشبكات النقل أهدافًا مفضلة لأي هجوم محتمل دون مستوى الحرب الشاملة.
ووفقًا له، فإن اللوجستيات كانت دائمًا العمود الفقري للنجاح العسكري، وقد أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية، ذلك بوضوح، بينما يدرك الكرملين أن استهداف البنية التحتية اللوجستية، مثل القواعد والمستودعات، ليس مجرد ضربة تكتيكية بل استراتيجية تُضعف قدرة الناتو على الاستجابة الفورية.
وتعطيل خطوط الإمداد لا يعني فقط تأخير العمليات بل زرع الشكوك داخل الحلف الأطلسي وتقويض استعداده لخوض مواجهات مستقبلية.
◄من يقف خلف العمليات؟
في أوروبا الشرقية، لا تزال شبكات التجسس الروسية نشطة وفعّالة، أما في أوروبا الغربية، فمع تضاؤل النفوذ المباشر، يلجأ الكرملين بشكل متزايد إلى الوكلاء بالوكالة، وكما أشار جاليوتي، فإن هؤلاء الوكلاء غالبا ما تحركهم المكاسب المالية.
ومع ذلك، يُحذّر السير فراي، من أن التوترات الاجتماعية والسياسية قد توفر أرضا خصبة لتجنيد عناصر متطرفة، موضحًا: “في الغرب، الاستقطاب المتزايد هو ثغرة يمكن استغلالها بسهولة، والتجنيد المحلي، وإن كان أقل احترافية، يمنح ميزة الإنكار ويصعب اكتشافه مبكرًا”.
◄كيف تتم العمليات؟
التخريب هو السلاح المفضل، والحرائق والانفجارات التي تبدو حوادث عشوائية غالبا ما تكون جزءا من مخطط مدروس، كما حدث في مستودع الأسلحة التشيكي عام 2014، حيث لا يتطلب الأمر سوى عملية صغيرة لتحريك أجهزة الأمن وصرف الانتباه عن جبهات أخرى، ما يخلق “إزعاجا مسلحا”، على حد وصف جاليوتي.
◄تطورات وأهداف الحروب الجوية
ووفقًا لمارك جاليوتي، فمن طائرات الاستطلاع في الحرب العالمية الأولى إلى الدرونز والأسلحة الإلكترونية، شهدت السماء تحولا إلى ساحة معركة رئيسية، ومع ذلك، فإن تدمير منشآت الرادار قد يكون الهدف الأكثر تأثيرا.
حيث إن أنظمة الرادار هي العيون التي لا تنام، توفر إنذارات مبكرة وتنسق الدفاعات الجوية، وإضعافها يعني فتح ثغرات في المجال الجوي لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، ما يُجبر القادة على إعادة التفكير في ردودهم على تصرفات الكرملين في مناطق أخرى.
لكن الكرملين يواجه معضلة، وهي تنفيذ عمليات جوية معقدة يستدعي مهارات عالية، ما يرفع احتمالية كشفها، ومع ذلك، فإن استخدام طائرات بدون طيار صغيرة بواسطة وكلاء محليين يقدم بديلا فعالا، وقد شهدت المملكة المتحدة بالفعل في وقت سابق، حالات لتحليق طائرات مسيرة فوق قواعدها العسكرية، ما يُبرز احتمال تصعيد هذا التكتيك ليشمل هجمات إلكترونية أو تفجيرات محدودة.
وفقًا لما أفادت به المؤسسة البريطانية ذاتها، فإذا تكررت هذه الهجمات بشكل منظم، فقد تصبح جزءا من استراتيجية شاملة تهدف إلى إنهاك قدرات الدفاع الجوي للناتو تدريجيا، دون إشعال حرب تقليدية مباشرة.
◄قاع البحر.. أهداف المجال البحري
يشكل المجال البحري عنصرًا أساسيًا في الأمن العالمي والازدهار الاقتصادي، حيث يضمن تدفق التجارة، ويحمي السواحل الاستراتيجية، ويدافع عن ممرات النقل الحيوية، ومع تزايد القدرات على تنفيذ عمليات في المياه العميقة، أصبح هذا المجال أكثر حيوية واتساعًا.
بينما تتركز الأهداف الاستراتيجية عادة فوق سطح المياه، فإن الخطر الأكبر يكمن في الأعماق، حيث إن كابلات الاتصالات وخطوط أنابيب الطاقة، الممتدة تحت سطح البحر، تعتبر أهدافًا مغرية للعمليات السرية، ومنذ تفجير خط أنابيب نورد ستريم 2، تزايد القلق بشأن هشاشة هذه البنية التحتية، خصوصًا في مناطق مثل بحر البلطيق بمياهه الضحلة، حيث يمكن استهداف عدة كابلات وخطوط في وقت واحد لإحداث خلل واسع النطاق.
◄لماذا تُعد الكابلات البحرية أهداف مهمة؟
تعتمد شبكة البيانات العالمية بشكل أساسي على الكابلات البحرية، حيث تمر عبرها 95% من البيانات الدولية، وأي خلل في هذه الكابلات يمكن أن يشل حركة الاتصالات، ويعطل المعاملات المالية والخدمات الحيوية، ويؤدي إلى أزمة طاقة واضطراب اجتماعي بفعل نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار.
ويتطلب تنفيذ هجمات تحت سطح البحر مهارات عالية وتجهيزات متخصصة، ومن المرجح أن يعتمد الكرملين على وحدة GUGI وهي “المديرية الرئيسية لأبحاث أعماق البحار” التي تضم غواصين وغواصات مجهزة للعمل في الأعماق السحيقة.
وعلى الرغم من أن هذه العمليات تقلل من فرص إنكار العملية الهجومية، إلا أن الغموض المحيط بها يجعل من الصعب اتخاذ قرار سياسي واضح من قبل حلف شمال الأطلسي، ما يثير التساؤل,, هل يستحق الأمر المخاطرة بحرب شاملة لحماية البنية التحتية للطاقة والاتصالات؟
وفقًا للمؤسسة البريطانية ذاتها، تُظهر العمليات الأخيرة أن تنفيذ التخريب تحت البحر يمكن أن يتم باستخدام طائرات مسيرة تحت الماء، وألغام بحرية، أو غواصين مزودين بمعدات متطورة، ومن المحتمل أن تنطلق هذه الهجمات من قاعدة كالينينجراد، حيث يتمركز أسطول البلطيق الروسي.
◄الفضاء مسرح صراع
تحول الفضاء من مجرد ساحة للاتصالات والمراقبة إلى مسرح للصراع، حيث طورت الدول أسلحة مضادة للأقمار الصناعية وأنظمة دفاعية لحماية أصولها الفضائية، وتركز الأنشطة الفضائية الروسية على الأقمار الصناعية في المدار المتزامن مع الأرض، حيث تتواجد أنظمة الاتصالات والمراقبة الرئيسية.
بحسب مؤسسة «RUSI» لأبحاث الدفاع والأمن والشؤون الدولية البريطانية، تعتبر السيطرة على المعلومات محورًا أساسيًا في العقيدة العسكرية الروسية، ما يجعل الأقمار الصناعية هدفًا استراتيجيًا، فتعطيلها يمكن أن يشل الاتصالات ويعطل جمع المعلومات الاستخبارية، ما يمنح روسيا تفوقًا معلوماتيًا في أي صراع.
◄من ينفذ هذه العمليات؟
نظرًا لتعقيد العمليات الفضائية، فإن تنفيذ مثل هذه الهجمات سيعتمد على قوات الفضاء الروسية، وهي الجهة الوحيدة التي تمتلك الخبرة والموارد الكافية لهذا النوع من العمليات وفقًا لمؤسسة «RUSI» للأبحاث الدولية، وهناك عدة خيارات متاحة للكرملين، مثل استخدام صواريخ مضادة للأقمار الصناعية، والتي يمكن أن تدمر الأقمار وتخلق سحابة من الحطام الفضائي تؤدي إلى أضرار إضافية.
وهناك خيار آخر وهو استخدام أسلحة إشعاعية لتعطيل أو إحراق أنظمة الأقمار الصناعية، ومع ذلك، فإن هذه العمليات تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، حيث قد تؤدي إلى انهيار شامل في أنظمة الاتصالات والخدمات الرقمية على مستوى العالم، ما يضع حلف شمال الأطلسي «الناتو» في مواجهة صراع لا رجعة فيه.
وكما يشير السير روب فراي، فإن “الهجوم على الفضاء لن يكون اختبارًا بل بداية حرب واسعة النطاق”.
◄الأمن السيبراني في ساحة الحرب الحديثة
ولم يعد الفضاء الإلكتروني مجرد أداة دعم للعمليات العسكرية، بل أصبح قوة رئيسية في حد ذاته، رغم أن «الناتو» لم يعترف رسميًا بالفضاء الإلكتروني كجبهة خامسة حتى عام 2016، إلا أنه برز بسرعة كواحد من أكثر أسلحة الحروب الحديثة تأثيرًا في إطار العمليات غير التقليدية.
في خضم المنافسة الجيوسياسية المتزايدة، يدرك الكرملين تمامًا أهمية الهيمنة على المعلومات، ويصف البروفيسور جاليوتي، هذا العصر قائلا: “لم يعد بالإمكان فصل الإنترنت عن بقية المجالات، فكل شيء بات إلكترونيًا” وهذا يجعل قطاعات مثل النقل، والتمويل، والطاقة، والاتصالات العسكرية أهدافًا حساسة، إلا أن القطاع الصحي، بتأثيره المباشر على حياة الناس، قد يكون المجال الأكثر عرضة لاختبارات التخريب السيبراني.
◄خلال الحروب.. لماذا يتم استهداف الأنظمة الصحية؟
واضاف البروفيسور جاليوتي، إن الذعر الناتج عن انهيار النظام الصحي قد يخلق حالة طويلة الأمد من الفوضى، ويضع الحكومات في موقف دفاعي، مجبرة على التعامل مع تداعيات داخلية بدلاً من مواجهة التهديدات الخارجية.
وتابع، أما أخطر أشكال الهجوم هو استغلال “ثغرات اليوم صفر”، تلك الثغرات الأمنية التي لم تُكتشف بعد، لكن هذه الأوراق الثمينة تُستخدم بحذر وتُحتفظ للحروب الكبرى، في المقابل، يعتمد المهاجمون غالبًا على هجمات الحرمان من الخدمة “DDoS” التي تغمر الأنظمة بحركة مرور ضخمة، أو على برامج الفدية التي تقفل بيانات المؤسسة وتطلب فدية لإعادتها، في كثير من الأحيان، يتم تنفيذ هذه الهجمات عبر روابط تصيد تخدع الموظفين.
◄الجبهة السادسة.. الحرب النفسية
وقال الضابط الروسي أحد أبرز منظري التخريب، يفجيني ميسنر، إن النجاح العسكري الحقيقي يكمن في التأثير النفسي على الخصم، حيث إن الكرملين يسعى إلى خلق صورة لنفسه كقوة لا يمكن مواجهتها، وباستخدام التضليل الإعلامي، يمكن أن تُزرع الشكوك وتُعمق الانقسامات، ليتم تعزيز هذا التصور أن أي دعم للناتو قد يقود إلى مواجهة لا يمكن التنبؤ بعواقبها.
وبحسب الموقع البريطاني ذاته، فإنه الكرملين ينفذ حاليًا العديد من العمليات السيبرانية تحت العتبة الحربية، لكن قد نشهد فترة هدوء تكتيكية قبل تنفيذ هجمات كبرى، كما يشير الخبراء، إلى أن روسيا ستستمر في اختبار دفاعات الغرب من خلال عمليات صغيرة، في انتظار اللحظة المناسبة لتصعيد الصراع.
وعلى صعيد ذلك، قال السير روب فراي: “إن روسيا بحاجة لفترة لإعادة التزود بالطاقة، لكنها ستواصل إبقاء النار مشتعلة”، لكن لا يمكن التنبؤ بجميع السيناريوهات، ومع ذلك، تعلمنا دروس الماضي من الحرب الروسية الأوكرانية، أن غياب الخيال هو أكبر عدو للدفاع الوطني، والآن هو الوقت المناسب للاستعداد، قبل أن نشهد هجومًا من الكرملين في قلب دولة عضو في الناتو، على حد وصفه.