لطالما اعتُبرت المظلة النووية الأمريكية حجر الزاوية في الأمن الأوروبي، لكن ماذا لو قررت واشنطن فجأة إعادة النظر في التزاماتها الدفاعية؟
سيناريو كهذا قد يترك أوروبا أمام خيارين أحلاهما مُرّ: مواجهة تهديد روسي مباشر قد يعصف بوحدة الاتحاد الأوروبي، أو الدخول في سباق تسلح نووي يضعف جهود منع الانتشار.
وفي ظل هذه المعطيات، تبرز فرنسا، بصفتها القوة النووية الأوروبية الوحيدة في الاتحاد كخيار مُحتمل لسد الفراغ، لكن، السؤال.. «هل تمتلك باريس القدرة والجاهزية لحماية القارة العجوز نوويًا؟».
رغم أن الفكرة تبدو مغرية للبعض، فإنها تثير في الوقت ذاته تساؤلات مشروعة حول مدى فاعلية الردع الفرنسي، وحجم الترسانة النووية، والأهم من ذلك: هل ستخاطر فرنسا فعليًا بالدفاع عن حلفائها إذا تعرضت أوروبا للتهديد؟ هذه المخاوف ليست بلا أساس، لكنها قد تكون مبالغًا فيها مقارنةً بالشكوك التي تحيط بالمظلة الأمريكية ذاتها.
أولًا، تُظهر التجربة أن الرئيس الأمريكي وحده يمتلك سلطة اتخاذ القرار النهائي بشأن استخدام الأسلحة النووية، رغم وجود آلية تشاور داخل “مجموعة التخطيط النووي” في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وفقًا لموقع «warontherocks» لتحليل القضايا الجيوسياسية.
ومع ذلك، تظل قرارات هذه المجموعة غير مُلزمة، مما يعني أن واشنطن تحتفظ بالحق في التصرف وفق مصالحها الاستراتيجية.
بالمثل، يخضع السلاح النووي الفرنسي لسلطة الرئيس الفرنسي الحصرية، حيث لا تشارك باريس في مشاورات الناتو النووية نظرًا لعدم عضويتها في هذه المجموعة.
لكن، لا يوجد ما يمنعها من تبني نهج مشابه للولايات المتحدة، بحيث تلتزم بالتشاور مع حلفائها الأوروبيين خلال فترات السلم، بينما تحتفظ بالقرار النهائي في أوقات الأزمات.
ويمكن أن تتم هذه المشاورات في إطار أوروبي بحت، بما ينسجم مع العقيدة الفرنسية القائمة على الاستقلال الاستراتيجي.
لكن التحدي الأكبر ليس في آلية اتخاذ القرار فحسب، بل في مدى استعداد فرنسا فعليًا لاستخدام ترسانتها النووية لحماية أوروبا.
فمن حيث المبدأ، تمتلك باريس ميزة نسبية مقارنةً بواشنطن؛ إذ أن قربها الجغرافي من حلفائها الأوروبيين، وارتباطها الاقتصادي العميق بهم، يجعلها أكثر عرضة للتأثر بأي تهديد قد يواجه القارة.
ومع ذلك، فإن تعزيز الردع الأوروبي يتطلب حلولًا عملية لتوسيع الترسانة النووية الفرنسية وتعزيز مرونتها، وأحد أبرز هذه الحلول هو التركيز على تطوير القدرات المحمولة جوًا للردع النووي، دون الحاجة بالضرورة إلى نشرها خارج الأراضي الفرنسية، كما يمكن النظر في تطوير أسلحة نووية منخفضة العائد، مما يزيد من خيارات الردع المتاحة.
المعضلة النووية الأوروبية
من ناحية أخرى، ستتطلب أي مظلة نووية فرنسية تمويلًا مستدامًا، وهو ما يمكن تحقيقه إما من خلال إنشاء آلية تمويل مشترك بين الدول الأوروبية الراغبة، أو عبر تعويض فرنسا عن تكاليف الردع النووي من خلال استثمارات متبادلة في مشروعات دفاعية أوروبية، مثل برنامج “نظام القتال الجوي المستقبلي”.
وفي هذا السياق، قد تكون المملكة المتحدة لاعبًا إضافيًا مهمًا، حيث يمكن لترسانتها النووية أن تكمل الدور الفرنسي رغم التحديات السياسية والفنية التي تواجه لندن في هذا الملف.
وحتى الآن، لا تزال فكرة المظلة النووية الفرنسية تواجه عقبات كبيرة، لكنها قد تكون الخيار الوحيد أمام أوروبا إذا انسحبت الولايات المتحدة من التزاماتها النووية.
وبينما يظل نجاح هذا النموذج رهنًا بتوافر الإرادة السياسية والموارد المالية، فإن تعزيز التعاون الدفاعي الأوروبي قد يمهد الطريق لتحويله إلى واقع ملموس.
حتى أصبحت أوروبا تدرك واقع الانسحاب الأمريكي الجديد، وفي الآونة الأخيرة، شن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب هجومًا على نظيره الأوكراني، فلاديمير زيينسكي، مُشددًا على أنه لن يوفر الحماية إلا للحلفاء الذين يزيدون باستمرار نسبة إنفاقهم الدفاعي من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن أوروبا كانت قد بدأت بالفعل في التأقلم مع هذا التغيير، فبحلول عام 2024، أي قبل أن يتولى ترامب منصبه، كان 23 من أصل 32 عضوًا في حلف الناتو قد حققوا هدف تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، مقارنةً بستة أعضاء فقط في عام 2021.
وفي مارس 2025، عززت أوروبا قدراتها الدفاعية أكثر، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم 150 مليار يورو كقروض دفاعية للدول الأعضاء، بينما قررت بولندا توسيع حجم قواتها المسلحة من 200 ألف إلى 500 ألف جندي.
ومع ذلك، فإن الردع التقليدي وحده لن يكون كافيًا لحماية أوروبا، فمنذ بداية الحرب الباردة، كان الردع النووي الركيزة الأساسية لاستراتيجية الناتو العسكرية.
وإذا فقد الأوروبيون ثقتهم في الضمانات الأمنية الأمريكية، فسيكون عليهم البحث عن بدائل.
وبالفعل، خلال الأسابيع الأخيرة، تصاعدت النقاشات حول إمكانية توسع الدور النووي الفرنسي في أوروبا، وللمرة الأولى، برزت استجابة إيجابية قوية من ألمانيا.
في الوقت نفسه، أدلى رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك بتصريحات متباينة، حيث شدد على أهمية امتلاك بولندا للأسلحة الأكثر تطورًا، مُشيرًا تحديدًا إلى الأسلحة النووية، لكنه أكد في الوقت ذاته رغبة بلاده في فتح حوار مع فرنسا بشأن هذا الملف.
هل ينبغي أن يكون للحلفاء رأي في القرارات النووية؟
شهدت الأشهر الأخيرة جدلًا محتدمًا حول تعميق التعاون النووي بين فرنسا والمملكة المتحدة، وإمكانية أن تلعب الترسانة النووية الفرنسية دورًا أوسع في الدفاع الأوروبي، إلا أن هناك ثلاثة انتقادات متكررة تُثار بشأن جدوى المظلة النووية الفرنسية.
أول هذه المخاوف يتعلق بمسألة اتخاذ القرار، حيث يُنظر إلى فرنسا على أنها لن تتخلى أبدًا عن سلطتها الحصرية في التحكم بالأسلحة النووية لصالح حلفائها.
فرئيس فرنسا، كما هو الحال مع نظيره الأمريكي، يحتفظ بالسلطة المطلقة في اتخاذ القرار بشأن استخدام الأسلحة النووية، وفي حلف الناتو، ورغم أن قرارات استخدام الأسلحة النووية تمر عبر مجموعة التخطيط النووي، فإن التأثير الفعلي لهذه الآلية لا يزال غير واضح.
فعلى سبيل المثال، من المستبعد جدًا أن تفرض نقاشات الحلف على واشنطن قرارًا باستخدام الأسلحة النووية، وعلى العكس، قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن يسعى الحلفاء الأوروبيون إلى دفع الولايات المتحدة نحو اتخاذ مثل هذا القرار بدلًا من محاولة ثنيها عنه.
أما بالنسبة لتاريخ الناتو نفسه فهو يعكس مثل هذه الهواجس، فقد كانت دول رئيسية مثل المملكة المتحدة وكندا وألمانيا تسعى دائمًا لضمان حصولها على مشاورات حقيقية مع واشنطن بشأن القرارات النووية.
وحتى بعد إقرار مبادئ أثينا التوجيهية عام 1962، التي نصّت على أن الولايات المتحدة ستتشاور مع حلفائها بشأن الاستخدام النووي “إذا سمح الوقت”، استمرت بعض الدول في التفاوض على اتفاقيات ثنائية لضمان سماع آرائها.
والأهم من ذلك، أن أي آلية استشارية تظل في النهاية غير ملزمة، إذ يحتفظ الرئيس الأمريكي بالقرار النهائي بشأن الأسلحة النووية الأمريكية.
علاوة على ذلك، فإن جزءًا فقط من الترسانة النووية الأمريكية مخصص للناتو، مما يعني أن القرارات المشتركة تنطبق فقط على هذه الأسلحة دون غيرها.
أما الأسلحة النووية الموزعة على أراضي الحلفاء، فلا تمثل سوى 5% من الترسانة النووية الأمريكية، وحتى في هذه الحالة، لا يمكن استخدامها دون إذن صريح من واشنطن، وفقًا للقواعد التي تم وضعها منذ الستينيات.
وبالتالي، إذا قررت فرنسا توسيع نطاق مظلتها النووية ليشمل الدول الأوروبية الحليفة، فلن يكون مطلوبًا منها التنازل عن سيادتها المطلقة على هذه الأسلحة.
ويمكن بدلاً من ذلك إنشاء هيئة استشارية تُعنى بتبادل المعلومات والمشاركة في التخطيط العسكري، وربما إجراء مداولات حول الاستخدام النووي، مما يمنح الحلفاء صوتًا في هذه العملية دون منحهم صلاحية اتخاذ القرار النهائي.
وقد تكون إحدى الخيارات المتاحة هي انضمام فرنسا إلى مجموعة التخطيط النووي التابعة للناتو، رغم معارضتها التقليدية لهذه الفكرة.
أما الخيار الآخر، الذي قد يكون أكثر قبولًا لدى باريس، فهو تأسيس هيئة أوروبية مستقلة خارج إطار الناتو، بما يتماشى مع الطموح الفرنسي الدائم لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي عن المؤسسات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة.
هل المظلة الفرنسية موثوقة؟
التحدي الثاني الذي يواجه المظلة النووية الفرنسية يتعلق بالشكوك حول مدى استعداد فرنسا للتضحية بباريس من أجل حماية تالين (عاصمة جمهورية إستونيا).
لكن هذه الحجة تحمل بعض التناقضات، فبينما تفصل بين واشنطن وتالين مسافة 7000 كيلومتر، يفصل بين باريس وعواصم الاتحاد الأوروبي الأخرى مجرد مئات الكيلومترات، مما يعزز من احتمالية اتخاذ فرنسا موقفًا أكثر التزامًا تجاه أمن جيرانها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مصالح فرنسا الاقتصادية متداخلة بشكل عميق مع بقية دول الاتحاد الأوروبي.
فجميع أسواق التصدير الكبرى لفرنسا، وأربعة من أكبر خمسة شركاء تجاريين لها، هم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي ظل هذا الترابط الاقتصادي الوثيق، من الصعب تصور سيناريو لا يُشكل فيه تهديد استقرار الاتحاد الأوروبي خطرًا مباشرًا على الأمن القومي الفرنسي.
محدودية الترسانة النووية الفرنسية
أحد أبرز التحديات التي تواجه الترسانة النووية الفرنسية هو افتقارها إلى المرونة الكافية وصغر حجمها، مما يجعلها غير قادرة على توفير ردع ممتد بالقدر المطلوب.
حيث تمتلك فرنسا حاليًا حوالي 290 رأسًا نوويًا، جميعها إما في حالة نشر فعلي أو تأهب دائم.
وعلى الرغم من أن إجمالي الرؤوس النووية الفرنسية والبريطانية مجتمعًا يعادل الترسانة الصينية، إلا أنه يظل أقل بكثير مقارنةً بالولايات المتحدة أو روسيا.
كما أن فرنسا، منذ إلغاء صواريخها النووية البرية في التسعينيات، تعتمد بالكامل على الردع الجوي والبحري، الذي يشمل الطائرات المتمركزة على الأراضي الفرنسية وعلى متن حاملة الطائرات “شارل ديغول”، بالإضافة إلى الصواريخ الباليستية المُطلقة من الغواصات.
يُنظر إلى الردع النووي على أنه مزيج من القدرات العسكرية والعزيمة السياسية، حيث تشمل القدرات عدد الرؤوس النووية، منظومات الإطلاق، وتقنيات التشغيل، والتدريبات العسكرية، أما العزيمة، فهي ترتبط بسجل الدولة في الأزمات السابقة، ونوع نظامها السياسي، ومدى ارتباط أمنها القومي بالصراع المطروح.
وبالنظر إلى الدور المركزي الذي تلعبه فرنسا في أمن أوروبا، فإن التزامها بالردع النووي يبدو أكثر مصداقية مُقارنةً بالولايات المتحدة، التي تتعامل مع التهديدات الأوروبية من منظور استراتيجي أوسع.
دعم أوروبي لتعزيز الردع الفرنسي
يمكن للدول الأوروبية المساهمة في تعزيز القدرات النووية الفرنسية عبر تمويل مباشر أو دعم غير مباشر يخفف الأعباء المالية عن باريس، وعلى سبيل المثال، يمكن لألمانيا تحمّل تكاليف إضافية في المشاريع الدفاعية المشتركة، مثل برنامج “نظام القتال الجوي المستقبلي” الذي يجمع بين فرنسا وألمانيا وإسبانيا.
كما أن انضمام فرنسا إلى “مبادرة الدرع الجوي الأوروبية” قد يتيح لها إعفاءً ماليًا مقابل دورها الاستراتيجي في المشروع، ومن المُرجح أن يتطلب الأمر حزمة متكاملة من هذه المبادرات، حيث تساهم الدول الأوروبية في تمويل أجزاء محددة من الترسانة الفرنسية بشكل مشترك.
خيارات التوسع النووي
لا يزال الجدل قائمًا حول ما إذا كان تعزيز الردع الفرنسي يستدعي زيادة عدد الرؤوس النووية أو تطوير أنظمة أسلحة جديدة.
ورغم أن إعادة تفعيل الصواريخ النووية البرية قد لا تكون ضرورية وتستغرق وقتًا طويلًا، فإن إنتاج نسخة منخفضة القوة من صاروخ “Air-sol moyenne portée” المُطلق جوًا قد يكون خطوة استراتيجية لطمأنة الحلفاء الأوروبيين.
كما أن هذا الخيار يعد أكثر سهولة من تطوير أنظمة تسليح جديدة بالكامل، في الوقت ذاته، تعمل فرنسا بالفعل على تطوير جيل جديد من صواريخها، يتمتع بقدرات تفوق سرعة الصوت، ومن المقرر أن يدخل الخدمة بحلول عام 2035.
إمكانية نشر الأسلحة النووية في الخارج
من الناحية النظرية، يمكن لسلاح نووي جوي جديد أن يسهل عملية نشر الأسلحة النووية الفرنسية خارج أراضيها، إلا أن الأدلة التاريخية لا تشير إلى أن ذلك يمثل عنصرًا جوهريًا في استراتيجيات الردع.
فهناك سوابق تاريخية لنشر الأسلحة النووية في دول لم تكن تحت مظلة الردع النووي، مثل التواجد الأمريكي في إسبانيا خلال الحرب الباردة، أو الأسلحة البريطانية في سنغافورة خلال الستينيات.
بالإضافة إلى ذلك، أثبتت الولايات المتحدة التزامها بحماية حلفائها مثل كوريا الجنوبية واليابان، رغم عدم وجود أسلحة نووية دائمة في أراضيهم منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي السياق الأوروبي، تبدو فرنسا بالفعل مرتبطة أمنيًا بجيرانها من خلال الجغرافيا والاقتصاد، مما يقلل من الحاجة إلى نشر أسلحتها النووية في الخارج لتعزيز مصداقية ردعها.
شراكة أمريكية أم طموح أوروبي
رغم امتلاك المملكة المتحدة لقدرات نووية، فإن التركيز على الترسانة الفرنسية يكتسب أهمية خاصة لسببين رئيسيين.
أولًا، يدفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون نحو تعزيز الاستقلال الأوروبي، وهو نهج يتماشى مع تاريخ فرنسا في السعي للاستقلال الاستراتيجي.
وفي المقابل، تحافظ المملكة المتحدة على علاقات أوثق مع الولايات المتحدة، حيث تبنى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر نهجًا أكثر مرونة تجاه إدارة ترامب، متجنبًا السياسات الأوروبية المضادة للتعريفات الجمركية.
هيكليًا، تعززت تبعية بريطانيا للولايات المتحدة عقب تصويتها على مغادرة الاتحاد الأوروبي في 2016، وعضويتها في شبكة استخبارات العيون الخمس، مما يُثير تساؤلات حول قدرتها على تبني استراتيجية أمنية مُستقلة.
والأهم من ذلك، تعتمد المملكة المتحدة على واشنطن في ترسانتها النووية، حيث تستأجر صواريخ الغواصات وتصمم رؤوسها الحربية استنادًا إلى التكنولوجيا الأمريكية.
ومع تزايد المؤشرات حول احتمالية إعادة نشر الأسلحة النووية الأمريكية على الأراضي البريطانية كما كان الحال خلال الحرب الباردة، تظل بريطانيا في موقع التابع للمنظومة الأمنية الأمريكية.
محدودية الردع النووي البريطاني
على الرغم من تشابه الحجم الإجمالي للترسانة النووية بين بريطانيا وفرنسا، إلا أن الفعالية التشغيلية تختلف بوضوح.
حيث تعتمد المملكة المتحدة بالكامل على أربع غواصات من فئة “فانجارد” مُسلحة بصواريخ باليستية، لكن واحدة منها فقط تكون في البحر في أي وقت.
هذا الترتيب يجعل الردع النووي البريطاني خيارًا محدودًا للغاية، حيث تصبح المملكة المتحدة دون بدائل نووية بمجرد إطلاق إحدى غواصاتها لصاروخ.
علاوة على ذلك، أضافت الإخفاقات المتكررة في تجارب الصواريخ مزيدًا من الشكوك حول موثوقية قدراتها النووية.
ورغم هذه القيود، لا يعني ذلك استبعاد بريطانيا من أي مظلة نووية أوروبية مستقبلية، فباعتبارها عضوًا في مجموعة التخطيط النووي، تمتلك خبرة في التشاور مع الحلفاء بشأن المسائل النووية، ويمكنها المساهمة في بناء هيكل أوروبي أكثر تماسكًا.
ورغم أن صغر حجم الترسانة النووية البريطانية يجعل استخدامها خارج نطاق الدفاع الوطني أمرًا غير مُرجح، إلا أنها تبقى جزءًا من معادلة الردع، حيث يرى حلف الناتو أن القوات النووية الفرنسية والبريطانية تكمل القدرات الأمريكية من خلال “تعقيد حسابات الخصوم”.
وفي سيناريو أكثر طموحًا، يمكن تعزيز التعاون النووي بين باريس ولندن، خاصة إذا سعت بريطانيا نحو ترسانة أكثر استقلالية، لكن هذا التحول سيظل احتمالًا بعيد المدى.
البديل بين ضمانات فرنسية ورهانات أمريكية
رغم الشكوك حول قدرة فرنسا على توفير مظلة نووية موثوقة، فإن العديد من التحديات نفسها تنطبق أيضًا على الضمانات النووية الأمريكية.
فالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يحتفظ بسلطة حصرية على استخدام الأسلحة النووية، رغم آليات التشاور داخل حلف الناتو.
كما أن موقع الولايات المتحدة الجغرافي البعيد عن أوروبا، إلى جانب تراجع ارتباطها الاقتصادي بالاتحاد الأوروبي، يزيد من الشكوك حول مدى التزامها بالدفاع عن الحلفاء في حالة وقوع أزمة.
بالمقابل، تتمتع فرنسا بمصلحة استراتيجية مباشرة في أمن أوروبا، ما قد يعوّض جزئيًا صغر حجم ترسانتها النووية، لكن معالجة المخاوف بشأن محدودية الترسانة الفرنسية تتطلب مزيجًا من السياسات الإبداعية، مثل تمويل الحلفاء الأوروبيين للردع الفرنسي، إلى جانب استثمارات حقيقية في تحديث القدرات النووية الفرنسية وتعزيز مرونتها.
هل أوروبا مُستعدة لخيارها النووي الخاص؟
مع تصاعد التوترات الدولية، بدأت بعض الدول الأوروبية في مراجعة موقفها من التسليح النووي، فقد ألمح رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك إلى إمكانية امتلاك بولندا لسلاح نووي، بينما دعت إحدى الصحف الألمانية مؤخرًا إلى استراتيجية تحوط نووي تضمن مسارًا نحو تطوير القنبلة في حال الضرورة.
وحال تحولت هذه الأفكار إلى سياسات فعلية على أرض الواقع، فستؤدي إلى إعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي، بل وقد تهدد منظومة عدم الانتشار النووي بشكل أعمق من مجرد توسيع المظلة الفرنسية.
لذلك، قد يكون تعزيز الردع النووي الفرنسي هو الحل الأكثر واقعية لتبديد المخاوف الأمنية المتزايدة داخل أوروبا، وتقليل اندفاع بعض الدول نحو تبني استراتيجيات نووية أكثر راديكالية.