دفعت العقوبات الأخيرة من الرئيس الأمريكي جو بايدن على قطاع الطاقة الروسي، والتي وصفت بأنها الأشد منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، العديد من المخاوف على قطاع يسهم بنحو 30% من الناتج المحلي، و60% من الصادرات الروسية، بالإضافة إلى تأثيره على تمويل الحرب ومسار المفاوضات المحتملة.
وتزامنت العقوبات مع انتهاء آخر اتفاقيات العبور في أوكرانيا التي تعد المنفذ الرئيسي لشبكة الأنابيب العنكبوتية لضخها إلى الأسواق الأوروبية، وذلك في مطلع يناير الجاري بخط أنابيب الأخوة “يورنغوي-بوماري-أوزهورود”، ووقف إيرادات منه تصل إلى 6.5 مليار دولارسنوياً، بعد أن رفضت أوكرانيا تجديدها، وذلك بعد توقف خطي نورد ستريم عبر دول البلطيق، ويامال عبر بيلاروسيا وبولندا ومنها لألمانيا، وآخرهم الأخوة عبر أوكرانيا، وفق تحليل للمركز الأطلسي.
ويوضح المركز في تقريره، أن شركة الطاقة العملاقة المملوكة للدولة الروسية “غازبروم” شهدت بالفعل خسائر بمليارات الدولارات، من 130 مليار متر مكعب في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى 15 مليار متر مكعب 2023، في حين أن الصفقات المستقبلية طويلة الأجل مع كييف غير واردة سيما في ظل الحرب القائمة على الأرض، ما ينذر بتقلص كميات بيع الغاز في السوق الفورية.
مفترق طرق
ومع نجاح روسيا في تعزيز سردية الرخاء الاقتصادي لأوروبا يعتمد على مصادر الطاقة الروسية الرخيصة، من خلال احتكار سوق الغاز الأوروبية استراتيجيًا بأسعار مخفضة، تحطمت هذه الأسطورة عندما دفعت أوروبا تريليون دولار في عام 2022 لوحده، للتخفيف من أزمة الطاقة بعد وقوف أوروبا بجانب أوكرانيا.
الأمر الذي يضع أوروبا أمام خيارين:
– وضع حد للغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب إلى الأبد، وبناء اقتصاد آمن ومرن مع إمدادات بديلة.
– أو الاستسلام للضغوط الاقتصادية والانزلاق إلى الاعتماد على الغاز الروسي من خلال مجموعة من الصفقات بخصومات قصيرة الأجل.
ويمكن للتجار في أوروبا إيجاد طرق للالتفاف حول العقوبات من خلال إخفاء الغاز الروسي بإعتباره أذربيجانيًا لجعل الصفقة أكثر قبولًا سياسيًا.
وبحسب المركز، لقد قامت دول البلطيق وبولندا بتنويع مصادر الطاقة لديها إلى هو أبعد من نقطة اللاعودة، في حين أن الدول الأوروبية الأخرى، وخاصة المناطق الأكثر تضررًا من ارتفاع أسعار الطاقة، معرضة لخطر العودة إلى الصفقات مع موسكو، ما لم يحدد الاتحاد الأوروبي موعدًا نهائيًا واضحًا وملزمًا قانونًا للغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب في تفويضه بشأن مستقبل مصادر الطاقة الروسية.
الأمر الذي ينذر بانقسام أوروبا مع تضرر البلدان غير الساحلية مثل سلوفاكيا والمجر وجمهورية التشيك والنمسا، سيما مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي المسال«LNG»، ما يضعها تحت تأثير إغراءات الأسعار المخفضة من روسيا مع نهاية الشتاء الحالي وحتي بداية نوفمبر 2025 ، حيث يتعين على أعضاء الاتحاد الأوروبي تعبئة خزاناتهم لمستويات تصل إلى نحو 90 % من القدرة الاستعابية لهم.
حلول بديلة
ويلفت المركز، أن تأمين صفقات السوق الفورية قصيرة الأجل ذات الحجم الأصغر من خلال أوكرانيا ممكنا إذا تمكنت أطراف ثالثة من العمل مع موسكو وكييف بشكل منفصل للتفاوض على رسوم عبور جديدة وعمليات لوجستية لنظام النقل، وإكمال الترقيات الفنية، والأهم من ذلك، ضمان الشهية الجيوسياسية في كييف للتدفقات المستقبلية.
وفي سياق آخر، يعزز من الموقف الأوكراني، أن التقاضي المستمر والأحكام الموقعة بمليارات الدولارات ضد شركة غازبروم، لعدم الوفاء بشروط الدفع والاستلام لعقدها المنتهي الصلاحية مع أوكرانيا بسبب الاكتفاء بدفع رسوم العبور لـ 15 مليار متر مكعب من الغاز بدلًا من 40 مليار متر مكعب، إلى تجنب الشركات الأوروبية مستقبلًا التعاملات معها، في حين أن احتمال الاستمرار في شراء الغاز الروسي يوفر وهمًا بالإعفاء الاقتصادي قصير الأجل، إلا أنه سيكون خيارًا مكلفًا وخطيرًا في المستقبل.
التوقيت المناسب
ويتابع التحليل، أنه لا يوجد توقيت أفضل من هذا، لفرض عقوبات على غاز “غازبروم” لخلق حالة من اليقين لدى الموردين الآخرين وإرسال رسالة قوية إلى التجار الأوروبيين، بأنه لا مكان لإمدادات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي.
في السياق ذاته، لن يكون للحظر الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال الروسي، الذي نمت أحجام صادراته إلى الاتحاد الأوروبي، تأثير كبير على روسيا، حيث إن الغاز الطبيعي المسال سلعة قابلة للاستبدال مع طرق عالمية بديلة متعددة، سواءً من قطر أو الولايات المتحدة على عكس الغاز المنقول عبر الأنابيب.
وبدلاً من ذلك، يجب على الاتحاد الأوروبي وحلفائه توسيع العقوبات على مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية وتمويلها وسفنها، فضلاً عن فرض قيود إضافية على تصدير التكنولوجيا للحد من عائدات الغاز الطبيعي المسال وتوسيع المشاريع.
ورغم أن معضلة أمن الطاقة والقدرة التنافسية وإزالة الكربون في أوروبا ليس لها حلول سهلة، فإن هذا الانفصال التاريخي يمثل فرصة غير مسبوقة لصياغة اقتصاد آمن ومرن ومستقل عن روسيا.
مفاوضات الطاقة
وبغض النظر عن رسائل حسن النية، فإن ملف الطاقة سوف يكون في صميم مفاوضات التجارة عبر الأطلسي مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب.
نظرا لأن الاتحاد الأوروبي قادر على خلق بيئة استثمارية، يمكن التنبؤ بها من خلال شراء المزيد من الغاز من الولايات المتحدة، وهو ما سيكون بمثابة موسيقى في آذان ترمب.
وفق ما سبق، فإن استنفاد عائدات موسكو والعقوبات الجديدة من شأنه أن يضع أوكرانيا في موقف تفاوضي أقوى بغض النظر عن كيفية تقدم الحرب، ما يتعين على أوروبا أن تتحرك الآن لحماية ازدهارها الاقتصادي في المستقبل من نزوات أجندة بوتين الجيوسياسية.