لطالما كانت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثيرة للجدل بسبب مواقفه الاستفزازية، وآخر هذه المواقف كان اقتراحه، الذي يتناول خطة لتحويل قطاع غزة إلى وجهة سياحية فاخرة، تشبه في تصميمها منتجعات الريفييرا.
لكن مثل هذه الأفكار ليست جديدة تمامًا في عالم السياسة، فقد سبق أن أشار الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي، قبل أكثر من خمسة قرون، في كتابه «خطابات حول ليفي» إلى أن «التظاهر بالجنون قد يكون أحيانًا استراتيجية في غاية الذكاء».
ليبدو أن هذه الفكرة، التي بدت آنذاك كحكمة فلسفية مجردة، وجدت طريقها إلى التطبيق العملي في العصر الحديث، وتحديدًا خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، بحسب مجلة «نيويوركر» الأمريكية.
وفقًا لرئيس أركانه إتش آر هالدمان، اعتمد نيكسون ما أطلق عليه «نظرية المجنون»، حيث كان يؤمن بأن إقناع خصومه بأنه مستعد لاتخاذ قرارات غير عقلانية قد يمنحه ميزة تفاوضية، وكما قال نيكسون ذات مرة: «اسمع يا بوب، أريد أن يصدق الفيتناميون الشماليون أنني قد أفعل أي شيء لإنهاء الحرب، سنجعلهم يظنون أنني مهووس بعداء الشيوعية، وأنني قد أفقد السيطرة وأضغط على الزر النووي في أي لحظة، حينها، لن يكون أمام رئيس فيتنام الشمالية سابقًا، هو تشي مينه سوى التوجه إلى باريس وهو يتوسل من أجل السلام».
ترامب ونتنياهو.. تحالف على حساب غزة
في مشهد لافت، ظهر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إلى جانب بنيامين نتنياهو في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض، ليكشف عن رؤية صادمة لقطاع غزة، اقترح ترامب تهجير مليوني فلسطيني من القطاع، بينما تتولى الولايات المتحدة «السيطرة» عليه، متجاهلًا ما خلفته الحرب الإسرائيلية من آلاف القتلى ودمار هائل.
ولم يخفِ ترامب حماسه لتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، معتبرًا أن المشروع سيكون “هائلًا”، حيث تحدث عن بناء مساكن فاخرة تضمن “حياة دون موت”، متجاهلًا أن ما يطرحه يعني تغييرًا ديموغرافيًا قسريًا، وبدا وكأنه يتعامل مع الكارثة كفرصة تجارية، بعيدًا عن أي اعتبارات إنسانية أو أخلاقية، وفقًا لمجلة «نيويوركر».
حيال ذلك، رحب حليف ترامب، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بخطة الرئيس الأمريكي، مؤكدًا أنها ستقود إلى السلام مع عدة دول، في المقابل، وجد ترامب دعمًا داخل واشنطن، حيث غرد السيناتور ماركو روبيو قائلاً إن «أمريكا مستعدة لقيادة غزة وجعلها جميلة مجددًا».
أمام الكاميرات، لم يستطع نتنياهو إخفاء ابتسامته العريضة، معترفًا بفضل دونالد ترامب في تقديم “هدية تاريخية” لإسرائيل، ولم يكتفِ بالإشادة، بل وصفه بأنه “أعظم صديق لإسرائيل في البيت الأبيض”، مؤكدًا أن نهجه غير التقليدي قد يحقق «اختراقًا استراتيجيًا»، يخدم مصالح تل أبيب دون الاكتراث بتبعاته الكارثية.
احتفاء بجرأة ترامب
تفاعل الإعلام الإسرائيلي مع إعلان دونالد ترامب حول غزة بحماسة غير مسبوقة، حيث وصف الصحفي أميت سيجال الحدث بالتاريخي، أما إيتامار بن جفير، زعيم اليمين المتطرف الإسرائيلي، فقد غرد ساخرًا: “دونالد، يبدو أن هذه بداية صداقة رائعة”، وحتى داخل الأوساط الليبرالية، كان الذهول سيد الموقف أمام طاقة ترامب غير المتوقعة.
ولم تكن فكرة تحويل غزة إلى منتجع سياحي جديدة على دونالد ترامب، فقد سبق أن أعرب صهره جاريد كوشنر عن رؤيته للاستثمار في الواجهة البحرية هناك، معتبرًا أن “إجلاء السكان” هو الخطوة الأولى لتحقيق ذلك، والجدير بالذكر أن، كوشنر، الذي يراه البعض مهندسًا استراتيجيًا، رأى أن الاعتراف المسبق بدولة فلسطينية سيكون “خيارًا كارثيًا”.
وفي ذات السياق، أشار محلل ومؤلف ومفاوض أمريكي متخصص في شؤون الشرق الأوسط، الدبلوماسي المخضرم آرون ديفيد ميلر، إلى أن مؤتمرات دونالد ترامب الصحفية تتجاوز كل التوقعات، ورأى أن ترامب يتبع أسلوب الصدمة لتخويف خصومه وإعادة صياغة النقاشات السياسية، وأنه ربما تكون تصريحاته مجرد مناورة لإرباك المنطقة.
ثمن الفوضى.. إشارات ترامب للعالم
يبدو أن استراتيجية دونالد ترامب القائمة على الصدمة قد تكلّف العالم استقرارًا خطيرًا، وعلى غرار ذلك، حذر الدبلوماسي آرون ميلر، من أن أداء ترامب يرسل إشارات مشجعة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين للاحتفاظ بأراضي أوكرانيا على صعيد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك للرئيس الصيني شي جين بينج للمضي قدمًا في حصار تايوان، مشيرًا إلى أنها رسائل تعكس أسلوب زعيم يتعامل مع السياسة كاستعراض فوضوي.
أشارت «نيويوركر» إلى أن الرئيس الأمريكي السابق، ريتشارد نيكسون كان يرى نفسه مفكرًا استراتيجيًا، لكنه فشل في تحقيق انتصار بفيتنام رغم تهديداته، تمامًا كما لم تحقق تهديدات فلاديمير بوتين النووية أو وعيد دونالد ترامب بـ«النار والغضب» ضد كوريا الشمالية نتائج حاسمة، وأن المغامرات غير المدروسة، مهما بدت جريئة، قد تقود إلى عواقب كارثية بدلًا من فرض الهيمنة.
أما إذا كان دونالد ترامب يسعى لإعادة إحياء “نظرية الرجل المجنون”، فإن التجربة تثبت أن الفوضى وحدها لا تجلب السلام، فالتهديدات غير المدروسة، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا، لا تؤدي إلا إلى زعزعة الاستقرار العالمي، وأن تكرار عرض الشجاعة الفوضوية لن يعزز النفوذ الأمريكي، بل قد يجلب الإحراج ويضر بالمصالح الاستراتيجية لواشنطن، بحسب مجلة «نيويوركر».