القفزات التكنولوجية الحديثة منحت بعض الجيوش قدرات فائقة، تعطى الدول التى تمتلكها الميزة الحاسمة لتحقيق أغراضها، كما أن إنشاء وحدات سرية خاصة داخل المؤسسات العسكرية مكن بعض الدول من خلق وتنفيذ أدوات الحروب الحديثة أو ما تسمى باسم «الحروب اللامتماثلة».
يمكن التنبؤ بنتائج الحرب التقليدية، انطلاقاً من موازين القوى التى تتداخل فى تكوينها، كحجم القوات ونوعية أسلحتها وتقنياتها، بينما تبدو معادلة النتائج فى الحرب الحديثة معاكسة تماماً، بحيث يمكن لفريق قليل الإمكانات التعويض عن تخلفه فى هذه الجوانب من خلال منظومة ممارسات ذات مرتكزات ثلاث: نوعية القتال الذى تخوضه، حرية اختيار مكان المواجهة وزمانها، والاستفادة من الدعم الذى تقدمه بيئته الحاضنة. حسب «صحيفة الأخبار».
◄ الحروب اللامتماثلة
نشأ التفكير فى الحروب اللامتماثلة بعد ما كشفته حروب أمريكا فى الهند الصينية وفيتنام وأفغانستان والعراق، والتى أسفرت عن خسائر فادحة تكبدتها الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول القوية. مما دفع المحللين العسكريين إلى البحث عن وسائل جديدة تناسب القوى السياسية العالمية وتضمن لهم تحقيق أغراضهم دون الدخول فى مواجهاتٍ مباشرةٍ.
اكتشفت القوى العظمى أنها لا تستطيع تحقيق النصر فى حروبها النظامية مقابل إرادة الشعوب، ومنها الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى (1954 – 1961م)، والتى أرغمت حكومة باريس على الاعتراف باستقلال الجزائر بعد سبعة أعوام من الصراع، لأنها لم تعد تحتمل مزيداً من الخسائر البشرية التى بلغت 25000 جندى قتيل وأضعافهم من الجرحى، فى حين كان الجزائريون مستعدين لمتابعة القتال رغم سقوط أكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
لقد ثبت للدول المتقدمة حتمية انهزام الجيوش الكبرى أمام تنظيمات شبه عسكرية؛ صغيرة العدد، ضعيفة التجهيز، محدودة الوسائل. هذا الكابوس المرعب للجيوش النظامية، وأدى بالدول القوية لاختراع جيل جيد من الحروب أطلقوا عليه تسمية: الحرب اللامتماثلة أو الحرب اللانمطية…فى الملف التالى نتناول آثار وتداعيات تلك الحرب، الحديثة وبالخصوص على الأمن القومى المصرى العربى. وكيف يمكن أن نستعد لما هو قادم؟
◄ د.غادة عامر: الاستعداد للهجوم يتطلب استيعاب علوم العصر
«القاسم المشترك بين أجيال الحروب الثلاث الأولى أنها كانت تستهدف القطاع العسكرى لينهار فتسيطر على المدنيين. أما فى الحروب الحديثة أو اللامتماثلة يمكن للعدو أن يستهدف الشخصيات والقطاعات المدنية وإرادة ووعى الشعوب ليضع الدولة تحت ضغط خفى ليصل إلى نفس نتيجة الحروب التقليدية وهى الانهيار ثم السيطرة»… هكذا بدأت حديثها معنا د.غادة عامر استاذ هندسة القوة والنطم الذكية بكلية الهندسة جامعة بنها وزميل ومحاضر بكلية الدفاع الوطنى ومؤلفة سلسلة كتب بعنوان «الحروب اللامتماثلة».
تشير عامر إلى مسميات الشكل الحديث من «الحرب»، فمنهم من أسماها «حرب الجيل الرابع» غير المتماثلة مثل البروفسور الأمريكى «ماكس مايوراينج»، وحرب «الجيل الخامس» مثل الخبراء العسكريين فى البنتاجون، أو «حرب العولمة» الذى أطلقه عليها بعض المفكرين والسياسيين. لكن الكثير من المتخصصين وأنا منهم نتبنّى اسم «الحروب اللامتماثلة» وذلك لاختلافها الكبير عن المواجهة بالرجال والعتاد إلى استخدام مباغت لتكنولوجيا يتم تطبيقها فى أشكال مفاجئة وغير مُتوقعة، ليتم استخدامها فى إعلام اجتماعى وبواسطة منظمات ارهابية وكما يتم بها تنفيذ عمليات استخباراتية وحروب نفسية واقتصادية. هذا فضلا عن استخدام الفضاء الخارجى.
◄ التكنولوجيا الحديثة
كل ذلك لتقوية نفوذ الجهة المُعتدية فى البلد المستهدف. ولعل أبلغ تعريف لهذه الحرب الجديدة هو ما قدمه البروفسور الأمريكى «ماكس مايوراينج» فى محاضرة له فى معهد الأمن القومى الإسرائيلى، حيث قال نصا «إنها الحرب بالإكراه وإفشال الدولة وزعزعة استقرارها ثم فرض واقع جديد يراعى مصالح الدولة المعتدية».
لقد نظرنا إلى دور التكنولوجيا فى خلق وتطور جميع أجيال الحروب، فلكل شكل من أجيال الحروب تكنولوجيا وتكتيكات خاصة بها تميزها عن سابقتها.
إلا أنه فى الحروب اللامتماثلة وجدنا أن التكنولوجيا الحديثة سهّلت الوصول لتكتيكات وأسلحة فعالة للنفاذ مباشرة للمجتمع، وليس على حدود الدولة السياسية. يتم ذلك باختلاق مُعضلات محلية وأزمات اقتصادية ونشر أوبئة بيولوجية أو آليات متناهية الصغر، فضلاً عن جيوش إلكترونية. هذه التكنولوجيا لا تستهدف فقط البُنية التحتية للدولة، بل تمتد لأجساد المواطنين وعقولهم. ولعلنا جميعاً لمسنا نموذجاً أوّليا من تلك الحروب فيما أطلق عليه «الربيع العربي»، والتى لعبت على وتر المعاناة لتهييج العواطف واستفزاز الجمهور.
◄ تعريف الأمن القومى
وأوضحت عامر إن مسرح العمليات فى الحروب الحديثة أصبح مسرحاً «هجيناً» ذابت فيه حالات الحرب والسلم والعنف واللاعنف، وصارت الجبهة بلا تعريف. فبعد كل الممارسات المعهودة فى أجيال الحروب السابقة أثبتت الحروب اللامتماثلة خفاءها ومرونتها الفائقة لحسم المعركة، فأخذت الهجمات أشكالاً مبتكرة يصعب الاستعداد لها دون استيعاب حقيقى لعلوم وتكنولوجيا العصر وبعقول وأيدى أبناء الدولة المستهدفة أنفسهم حتى لا يتم التلاعب بتلك الدفاعات من أبواب خلفية يعيها فقط مطورى تلك التكنولوجيا وهو ما شهدناه مثلا فى هجمات «البيجر»
وأشارت عامر إلى أن العلوم الحديثة أصبحت توفر تطبيقات تكنولوجية قد تخرج من حدود إدراك البعض.حيث إن الاكتشافات العلمية والابتكارات التكنولوجية تفتح مجالات للتطبيق لم تكن متاحة سابقاً. كما إن تسارع ظهورها يؤهل بعضها ليتم تصنيفها كأسلحة حروب غير متماثلة.
وترى أن تعريف الأمن القومى حديثاً تعدى بكثير أول تعريف له وضعه «والتر ليبمان» عام 1943، والذى قال فيه: «إن أمن الدولة يجب أن يكون مساوياً للقوة العسكرية التى تملكها».
◄ الهجمات الحديثة
لقد تجاوز التعريف إلى مفهوم شامل يعتنى بامتلاك القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتكنولوجية، إلى جانب الجيوش الوطنية والأجهزة الأمنية كدرع حامى للنظام والوطن.
فالهجمات الحديثة تعدت الاقتصار على الهجوم على حدود الدولة، وانما تدمير للأمن القومى – أى كيان الوطن – ومن الداخل. إنه يتسلل بين «الواقع» و«العالم الافتراضي»، ينمو بشكل مرعب لا يُرى به الفعل وإنما تتحقق فيه النتيجة. ونكرر بأن هذه التكتيكات والهجمات تعمل من خلال تكنولوجيا فائقة جديدة أو خفية تستغل قصور الدولة فى استيعاب أبعاد وإمكانات العلوم الحديثة لتلعب – مثلا – على النعرات القومية والطائفية، وتستخدم أسلحة وأدوات يصعب التنبؤ بها. بل قد تعمل على تجنيد الفرد العادى وتحويله إلى أداة من أدوات نجاح تلك الحرب ضد نفسه ووطنه.